في عالم يتّجه بخطى متسارعة نحو الطاقة النظيفة والتحوّل الرقمي، برزت المعادن النادرة كأحد المفاتيح الرئيسية في السباق نحو المستقبل. هذه المجموعة من العناصر الكيميائية، التي تضمّ 17 عنصرًا، تدخل في صميم كل ما يُعتبر “متقدمًا”: من البطاريات والسيارات الكهربائية إلى الأقمار الاصطناعية وأنظمة التوجيه في الصواريخ. لكن خلف بريق هذه المعادن، تتوارى معارك جيوسياسية شرسة وتهديدات بيئية عميقة وأسئلة وجودية عن عدالة التنمية.
في هذا الملف، نسلّط الضوء على الأبعاد المختلفة لهذه الظاهرة، بدءًا من تعريفها الجيولوجي والصناعي، وصولًا إلى أدوارها الجيوسياسية، وما تطرحه من تحديات بيئية وهيكلية.
في الاقتصاد العالمي الحديث، لم تعد القيمة تُحدّد فقط بمكان وجود المورد الطبيعي، بل أيضًا بالطريق الذي يسلكه من المنجم إلى المصنع، وهذا ينطبق بوضوح على المعادن الأرضية النادرة. فبينما تُستخرج هذه المواد في دول معينة، تتم معالجتها وتجهيزها في أماكن أخرى، ممّا يخلق شبكة سلاسل إمداد معقّدة تشكّل اليوم واحدة من أبرز مواطن الضعف في الأمن الاقتصادي للدول الصناعية.
منجمٌ واحد لا يكفي: مراحل السلسلة الصناعية
تمرّ المعادن النادرة بعدّة مراحل قبل أن تصل إلى شكلها القابل للاستخدام الصناعي:
1- الاستخراج: يتمّ من خلال التعدين التقليدي أو استخراج الرواسب الطينية.
2- التركيز الأولي (Beneficiation): فصل العناصر المفيدة عن الصخور الأخرى.
3- المعالجة الكيميائية (Refining): وهي أهم المراحل، إذ يتم خلالها فصل العناصر الفردية.
4- التصنيع المتخصّص: تحويل العناصر إلى سبائك أو مركبات تُستخدم في الصناعات المتقدمة.
5- التجميع الصناعي: إدخال المعادن في مكونات مثل المحركات، البطاريات، أو الدوائر الإلكترونية.
كل مرحلة من هذه المراحل تتطلّب تكنولوجيا متقدّمة واستثمارات ضخمة، وهذا ما جعل دولًا مثل الصين تتفوّق ليس فقط في الاستخراج بل في تكامل سلاسل الإمداد.
مركزية الصين في السلسلة العالمية
وفق تقرير لـ”وكالة الطاقة الدولية” (IEA) في العام 2022، تُسيطر الصين على: 70% من عمليات الاستخراج العالمية. 85-90% من قدرات التكرير الكيميائي.
نسبة مماثلة من التصنيع المتخصّص للمغناطيسات الدائمة، وهي من أكثر التطبيقات طلبًا.
هذا التمركز يمنح بكين قدرة غير مباشرة على التأثير في أسعار المعادن وسير عمليات التصنيع حول العالم. فعلى سبيل المثال، لو قرّرت الصين حظر تصدير مركّب معيّن (كما فعلت مع الغاليوم والجرمانيوم في العام 2023)، فإن صناعات كاملة في أوروبا وأميركا ستتوقف موقّتًا.
هشاشة الإمداد: أين تكمن المخاطر؟
– نقص البدائل الفورية: غياب بنى تحتية بديلة للتكرير في الغرب يجعل من نقل السلسلة مسألة معقدّة تستغرق سنوات.
– الاعتماد الجغرافي على نقاط محدّدة: مثل منجم “ماونتن باس” في أميركا أو رواسب “بينغتو” في الصين، مما يجعلها نقاط اختناق استراتيجية.
– التوترات الجيوسياسية: أي أزمة ديبلوماسية مع الصين قد تتحوّل سريعًا إلى أزمة تصنيع عالمية.
– ضعف التنويع في مصادر التموين: معظم الدول المستهلكة لم تنشئ بعد شبكات متنوّعة تضمن لها الاستمرارية في حالات الطوارئ.
محاولات فكّ الارتباط: الغرب يُعيد رسم الخريطة
– الولايات المتحدة أنشأت “مبادرة المعادن الحيوية (Critical Minerals Initiative)” لدعم شركات محلية وشراكات مع دول مثل أوستراليا وكندا. كما استثمرت في مشاريع لإعادة تدوير الأجهزة الإلكترونية القديمة لاستخراج العناصر النادرة منها.
– أوروبا تسعى عبر “تحالف المواد الخام الأوروبية(ERMA)” إلى بناء قدرات تصنيع وتكرير داخل القارة، بتمويل من صناديق الاتحاد.
– اليابان وكوريا الجنوبية وقّعتا اتفاقيات طويلة الأجل مع فيتنام والهند لتأمين موارد مستقلة عن الصين.
الدول النامية: عنصر مفصلي في السلسلة الجديدة
تمثل الدول الغنية بالموارد (مثل زامبيا، البرازيل، منغوليا) فرصاً لتأسيس سلاسل إمداد بديلة، خصوصًا إذا ما جرى دعمها فنيًا وتقنيًا لتطوير قدرات التكرير داخليًا. بعض المبادرات الناشئة تقترح إقامة “مراكز تصنيع إقليمية” في أفريقيا وآسيا الوسطى، ممّا قد يقلّل الضغط على المراكز التقليدية.
نحو مفهوم جديد لأمن التوريد
في عالم باتت فيه التكنولوجيا تُبنى على عناصر نادرة، لم يعد كافيًا أن تُنتج المادة الخام، بل ينبغي أن تمتلك الدولة أو التكتلات القدرة على التحكّم الكامل بالسلسلة من البداية إلى النهاية. وفشل الغرب في تجاوز المركزية الصينية في هذا المضمار قد يُبقيه رهينة استراتيجية في العقود المقبلة. من هنا، تصبح إعادة بناء سلاسل إمداد أكثر تنوعًّا واستقلالية أحد مفاتيح السيادة الحديثة.