منذ تسربت تفاصيل التعاون العسكري بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، تبدو المنطقة وكأنها تقف أمام أخطر تحوّل أمني منذ عقود. فالمسألة لم تعد محصورة في لقاءات جانبية أو تفاهمات ظرفية، بل باتت تتكشف عن منظومة كاملة جرى بناؤها في الظل، بتمويل وإشراف أميركي مباشر، هدفها المعلن مواجهة إيران، وهدفها الضمني إعادة رسم خريطة التحالفات في الشرق الأوسط على أسس جديدة.
الوثائق التي كشفت هذه الشبكة لم تصدر عن جهة هامشية أو تسريب عابر، بل عن القيادة المركزية الأميركية CENTCOM نفسها، وجاءت ضمن تحقيق موسّع نشرته صحيفة The Washington Post بتاريخ 11 تشرين الأول/أكتوبر 2025 تحت عنوان “Arab states expanded cooperation with Israeli military during Gaza war, files show”. التحقيق الذي أعدّه الصحفيان John Hudson وMissy Ryan أزاح الستار عن منظومة تعاون غير مسبوقة بين إسرائيل وست دول عربية، جرى تنظيمها عبر اجتماعات سرّية في البحرين وقطر ومصر والأردن والإمارات والسعودية، وأحيانًا بحضور مراقبين من الكويت وعُمان، في إطار مشروع أميركي يسمّيه البنتاغون “الهيكل الأمني الإقليمي” (Regional Security Construct).
الوثائق المسرّبة توضح أن الاجتماعات بدأت منذ عام 2022 تحت إشراف مباشر من القيادة المركزية الأميركية، وهدفت إلى دمج الرادارات وأنظمة الدفاع الجوي للدول المشاركة في شبكة واحدة، تتيح تبادل بيانات الصواريخ والطائرات المسيّرة في الوقت الحقيقي، وتمنح واشنطن القدرة على رسم خريطة دقيقة لأي تهديد إيراني محتمل. بعض العروض التقديمية التي تسرّبت من داخل CENTCOM تضمنت خرائط تغطية تمتد من البحر المتوسط إلى الخليج، وخططًا لتأسيس مركز للأمن السيبراني ومركز “دمج معلوماتي” بحلول عام 2026 لتوحيد المعطيات الاستخبارية بين الأطراف المشاركة. وفي بعض المراكز الأميركية، جرت تدريبات تحاكي «قتال الأنفاق» كما في غزة، بمشاركة فرق هندسية إسرائيلية وضباط عرب تدرّبوا على تدمير الأنفاق والتعامل مع الهجمات تحت الأرض.
ما كشفته الوثائق لا يقل صدمة عن توقيته. فهذه الشبكة لم تكن تحالفًا معلنًا ولا اتفاقًا موقعًا، بل ترتيبات أمنية سرّية تُعقد داخل قواعد أميركية مغلقة، بعيدًا عن أي إعلان رسمي أو تغطية إعلامية. الشرط الأساسي للمشاركة كان الصمت الكامل. لا صور، لا بيانات، ولا حتى تسريب لموعد اللقاء. بهذه السرية أمكن لبعض الحكومات أن توازن بين التزاماتها تجاه واشنطن ومخاوفها من الغضب الشعبي ضد التطبيع. إلا أن التسريبات الأخيرة مزّقت هذا الغطاء، وأظهرت التناقض الفاضح بين المواقف العلنية المندّدة بالحرب على غزة، والممارسات الفعلية داخل غرف العمليات المشتركة مع الجيش الإسرائيلي.
إحدى الوثائق تحدّثت بالتفصيل عن أزمة حقيقية كادت تفجّر هذا التنسيق، عندما نفّذت إسرائيل في سبتمبر 2025 غارة جوية داخل الدوحة استهدفت قيادات من “حماس”، من دون علم القطريين أو الأميركيين. الضربة لم تُرصد على أنظمة الرادار الموحّدة التي كانت محور المشروع، ما أثار استياءً واسعًا داخل غرف التنسيق. وتحت ضغط واشنطن، اضطرّ نتنياهو إلى تقديم اعتذار رسمي للدوحة، لكن الشرخ كان عميقًا، والثقة التي بُنيت على مدى ثلاث سنوات انهارت خلال ساعات قليلة.
الوثائق تُظهر أن الولايات المتحدة هي الضامن والمنسق والممول الجزئي لهذا المشروع، وأن بعض الاجتماعات حضرها مستشارون من دول تحالف “العيون الخمس” (الولايات المتحدة، بريطانيا، كندا، أستراليا، نيوزيلندا)، بهدف ربط الشرق الأوسط بمنظومة المراقبة الغربية الأوسع. وقد أُدرج المشروع ضمن خطط القيادة المركزية لمرحلة “ما بعد غزة”، لتأسيس بنية أمنية جديدة تحاصر إيران وتمنع تمدد نفوذها. إلا أن التسريبات الأخيرة جعلت هذا المشروع عبئًا سياسيًا على شركائه العرب أكثر منه مكسبًا استراتيجيًا.
في واشنطن، تزامن نشر التحقيق مع فرض عقوبات جديدة على شركات صينية متهمة بشراء النفط الإيراني، في إشارة إلى أن الصراع مع طهران لم يعد محدودًا بالمنطقة، بل بات جزءًا من مواجهة أوسع مع محور يتّسع نحو بكين وموسكو. وفي طهران، قرأ المسؤولون الإيرانيون التسريبات كدليل على وجود “تحالف ظل” عربي–إسرائيلي بإدارة أميركية مباشرة لتطويق إيران وإسقاط توازن الردع في الإقليم. أما في العواصم العربية، فقد ساد الصمت. فلا نفي رسمي، ولا تعليق، فقط صمت ثقيل يُقرأ كإقرار ضمني بأن ما كُشف ليس محض اختلاق.
ما جرى لا يعكس فقط هشاشة التوازنات، بل سقوط الحواجز الرمزية التي كانت تفصل بين “العدو” و”الشريك الأمني”. فالمعادلة القديمة التي حكمت الشرق الأوسط منذ عقود تتآكل أمام عيوننا: إسرائيل لم تعد محاطة بدول معادية، بل مندمجة في شبكات دفاع مشتركة مع بعضها، والولايات المتحدة تعيد هندسة الإقليم على مقاسها، فيما الشعوب تشاهد بصمت متصاعد ووعي يتّسع. وهكذا، يبدو أن زمن “التحالفات المعلنة” انتهى، وحلّ مكانه زمن “التحالفات المكشوفة”… تلك التي لا يجرؤ أحد على الاعتراف بها بعد.