في الخامس من آب اتخذت الحكومة اللبنانية قرارها التاريخي بحصر السلاح بيد الدولة، وفي الخامس من أيلول تحوّل القرار إلى خطة تنفيذية وضعتها قيادة الجيش وأقرّها مجلس الوزراء. بين المحطتين، خطت الدولة خطوة غير مسبوقة، إذ لم يعد الكلام على حصرية السلاح شعاراً سياسياً، بل أصبح برنامج عمل يبدأ من الجنوب ويتوسع تدريجياً ليشمل كل لبنان.
الخطة التي قدّمها قائد الجيش تقوم على أربع مراحل أساسية. الأولى، نزع السلاح جنوب الليطاني ومنع أي تحرك غير شرعي للسلاح عبر الحدود خلال ثلاثة أشهر. المرحلة الثانية تشمل المنطقة الممتدة بين الليطاني والأولي، والثالثة تركز على بيروت وضاحيتها، فيما تنتهي المرحلة الرابعة في البقاع وسائر المناطق. وفي كل مرحلة، سيُرفع تقرير شهري إلى الحكومة عن التقدم المحرز. لكن التحفّظ الأبرز جاء من وزراء “القوات اللبنانية” الذين اعتبروا أنّ غياب مهل زمنية واضحة للمراحل اللاحقة يترك ثغرة في التنفيذ.
على المستوى السياسي، بلغ اعتراض “الثنائي الشيعي” ذروته مع انسحاب وزرائه من الجلسة. هو انسحاب احتجاجي أكثر منه خياراً بالقطيعة، إذ أكّدت مصادر معنية أنّ “حزب الله” وحركة “أمل” لا ينويان الاستقالة من الحكومة، وإن كانا سيراهنان على الشارع لممارسة ضغوط ميدانية محسوبة. مع ذلك، وصفت أوساط متابعة ما جرى بأنّه “هزيمة سياسية” للحزب: الجلسة انعقدت خلافاً لموقفه، والخطة قُدّمت وأُقرّت رغم اعتراضه. وبات خروجه من الجلسات لا يغيّر في مسار الدولة التي قرّرت أن تمضي.
الولايات المتحدة رحّبت بالخطوة، ووصفتها بـ”إنجاز للبنان”، لكنها ربطت دعمها الفعلي للبنان والجيش بالبنود الزمنية للخطة. زيارة الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس وقائد القيادة المركزية الأدميرال براد كوبر إلى بيروت في الأيام المقبلة ستأتي في هذا السياق: جولة ميدانية للاطلاع على حاجات الجيش، والتأكيد على استئناف “الميكانيزم” لوقف الأعمال العدائية مع إسرائيل، بما يتيح التخفيف من الاعتداءات وفتح الطريق أمام انسحاب إسرائيلي مقابل. وبحسب مصادر الخارجية الأميركية، فإنّ جدية الجيش في التنفيذ ستُستخدم ورقة ضغط على تل أبيب لانتزاع ضمانات انسحاب.
داخلياً، أبدى رئيس مجلس النواب نبيه بري ارتياحه لخطة الجيش، ورأى فيها “مقاربة واقعية” تراعي التعقيدات الميدانية وتربط التنفيذ بوقف الاعتداءات الإسرائيلية. بري رفض بشكل حازم أي تحرك في الشارع، مؤكداً أنه “ضد أي فوضى ولو اضطر للنزول بنفسه لمنعها”. هذا الموقف يعكس سعيه للحفاظ على التوازن الدقيق: الاعتراض على المهل الزمنية الصارمة من جهة، ومنع انزلاق الأمور إلى فتنة داخلية من جهة أخرى.
الجلسة لم تخلُ من مفاجآت. الوزير فادي مكي، الذي انسحب مع “الثنائي”، قال إنه لا يستطيع تحمّل وزر قرار كهذا في ظل انسحاب مكوّن أساسي، ملمحاً إلى استعداده لوضع استقالته بتصرف رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. أما الرئيس جوزاف عون فأعلن أنه سيعيد قانون استقلالية القضاء إلى البرلمان لإعادة درسه بسبب “الشوائب الكثيرة” التي يتضمنها.
وسط هذا المشهد، تترقّب الساحة كلمة رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع في ذكرى “شهداء المقاومة اللبنانية”، حيث يُنتظر أن يحدّد نبرة المواجهة المقبلة مع “فريق الممانعة”، على وقع دخول البلاد في مرحلة انتخابية جديدة.
هكذا تبدو البلاد أمام خريطة طريق مختلفة: خطة عسكرية دقيقة التنفيذ، حكومة قررت السير حتى النهاية، ثنائي شيعي يحاول موازنة الاعتراض مع البقاء في السلطة، وواشنطن تراقب وتربط دعمها بالزمن والجدية. ما حصل في الخامس من أيلول قد يكون بداية مرحلة مفصلية: إمّا أن تتحوّل إلى مسار تصاعدي تعزّزه الضمانات الدولية، أو تتآكله الاعتراضات الداخلية والاعتداءات الإسرائيلية فيبقى حبراً على ورق.