حين يصبح تشكيل جيش موحد في سوريا رهينة لجماعات مسلّحة عابرة للحدود، ومرتبطة بأيديولوجيات متشدّدة، فإن ما يُبنى ليس جيشًا وطنيًا، بل مسرحًا مفتوحًا لصراعات مؤجلة. في سوريا اليوم، لا يتعلق الخطر فقط بتفكّك المؤسسة العسكرية، بل بإعادة بنائها على أسس لا تشبه الدولة، ولا تعبّر عن شعبها، ولا تطمئن حتى حلفاءها.
الصدمة الأكبر جاءت من إعلان إدماج آلاف المقاتلين الأجانب، معظمهم من الإيغور، في الفرقة 84 ضمن الجيش الجديد، في خطوة حظيت بمباركة واشنطن. الولايات المتحدة التي لطالما نظرت إلى المقاتلين الأجانب كتهديد وجودي، قرّرت فجأة تغيير المقاربة، تحت شعار “الشفافية” و”محاربة داعش” و”موازنة النفوذ الإيراني”. لكن خلف هذه التبريرات، يكمن تحوّل سياسي خطير: الميليشيا تحلّ محل الدولة، والجماعة تصوغ العقيدة العسكرية.
ليس سرّاً أن بعض هؤلاء المقاتلين كان حتى الأمس القريب يصنّف ضمن لوائح الإرهاب، وأن “هيئة تحرير الشام” التي تتصدّر المشهد العسكري والسياسي السوري حاليًا، كانت نفسها واجهة لتنظيم القاعدة. وما تبدّل ليس في فكرها، بل في موقعها. حلّت الهيئة نفسها شكليًا، واحتفظت بقياداتها، وغيّرت أسماء وحداتها، لكنها لم تغيّر حقيقتها. الآن، تشرف الهيئة على بناء وزارة الدفاع، وتتولى توزيع الرتب، وتفرض رؤيتها على جيش ما بعد الأسد.
الانفجار الأول لهذا المسار لم يتأخّر. ففي الساحل السوري، قُتل أكثر من ألف مدني، بينهم عشرات العلويين، في هجمات اتُّهمت فيها عناصر أجنبية شاركت في المجازر. لا ملاحقة، لا محاسبة، فقط صمت ثقيل يُخفي رسائل قاسية: هذا الجيش لا يُسأل، ولا يُحاسَب، لأنه وُلد من رحم فوضى وليس من مؤسسات.
الخطير في هذا المشروع ليس فقط تركيبة الجيش، بل غياب أي تصوّر جامع لسوريا كوطن. من الذي يمثّل الكرد في هذا الجيش؟ أين موقع الضباط العلويين؟ كيف تُدمج قوى كـ”قسد” و”الجيش الوطني” وفصائل درزية في هيكل عسكري واحد، وهم لا يثقون ببعضهم، ويخوضون نزاعات جغرافية وعقائدية؟ بل كيف يمكن الحديث عن جيش وطني في ظل وجود كيانات مقاتلة تملك شركاتها الأمنية الخاصة، وتدير عملياتها من غرف مشتركة مثل “الفتح المبين”، وتدرّب جنودها على أسس جهادية هجومية؟
الولايات المتحدة تعرف كل هذا. والصين تعرف أن الإيغور يُمنحون اليوم غطاءً رسمياً. وإسرائيل تراقب بقلق تسلّل الميليشيات إلى تخوم الجولان. الجميع يعرف، لكن لا أحد يُوقف هذا المسار، لأن الجميع لديه أجندته: واشنطن تريد توازناً مع طهران، أنقرة تريد ورقة ضغط على “قسد”، الرياض تموّل لإضعاف النفوذ الإيراني، وتل أبيب تضرب وتفاوض في آن واحد. أما سوريا، فهي الغائب الأكبر عن جيش يُفترض أن يحمل اسمها.
والأدهى أن وزارة الدفاع الجديدة تتحدث عن “إلغاء التجنيد الإجباري”، و”استقطاب الكفاءات التكنولوجية”، و”توسيع التعاون الدولي”، وكأننا أمام جيش دولة حديثة. لكن لا أحد يتحدّث عن العقيدة القتالية، أو الهيكل الوطني، أو الحدود الفكرية لهذا الجيش. ما زال المشروع يبدو كولاجاً فصائليًا، يعيد تدوير قوى الأمر الواقع ويمنحها بزّة رسمية.
مراكز دراسات كـ”هارمون” تنبّه إلى أن برامج “نزع السلاح وإعادة الدمج” (DDR) و”إصلاح القطاع الأمني” (SSR) لا يمكن أن تنجح إن لم تُحدّد مسبقًا من يملك الحق بالانخراط فيها. والمقاتلون الأجانب – وفق هذه المقاربات – لا يحق لهم شغل مناصب حساسة. لكن الواقع يُكذّب النظريات، ويمنحهم سلطة فعلية تُثير الشكوك حول نوايا المرحلة الانتقالية.
سوريا لا تحتاج فقط إلى جيش. تحتاج إلى معنى. لا قيمة لرتبة عسكرية إن لم تكن محمية بشرعية سياسية وأخلاقية، ولا جدوى من “توحيد القوات” إذا تم على أساس الصفقات والترضيات. المشكلة ليست في اندماج المقاتلين الأجانب، بل في غياب الدولة التي تحتضنهم أو تُقصيهم. والجيش الذي يُبنى بهذه الطريقة، سيكون هشًّا من الداخل، قابلاً للانفجار أكثر من القتال.
في لحظة نادرة من التاريخ، فُتح الباب لإعادة تشكيل سوريا، لا من الخارج بل من داخلها. فهل يكون هذا الجيش جسراً نحو الاستقرار، أم مشروع حرب مؤجلة؟ الإجابة لا تُكتب في البيانات الوزارية، بل في خرائط الدم.