تكرّ السبحة، ويتكرّر المشهد: موفد أميركي يزور بيروت حاملاً ورقة مطالب تتصل بسلاح “حزب الله”، فتردّ الدولة اللبنانية بما يشبه البيان الإنشائي. توم باراك، السفير الأميركي في أنقرة والمبعوث الرئاسي إلى سوريا ولبنان، حطّ مجددًا في العاصمة اللبنانية لتسلّم الردّ على خريطة الطريق التي وضعها في زيارته السابقة. ردٌ لبناني لم يُكشف رسميًا عن مضمونه، لكن التسريبات توحي بأن ما كُتب لا يرقى إلى مستوى ما تنتظره واشنطن: “هروب ناعم” من مطلب تسليم السلاح، عبر التلطّي خلف صياغات فضفاضة كالبيان الوزاري أو خطاب القسم الرئاسي، والقول إنهما يشكّلان “تعهّدًا ضمنيًا” لحصر السلاح بيد الدولة.
لكن هذه اللغة الديبلوماسية لا تنطلي على أحد، خصوصًا أن واشنطن طلبت – بصريح العبارة – قرارًا حكوميًا بالإجماع، وبحضور وزراء “حزب الله”، ينصّ على وضع جدول زمني واضح لتسليم السلاح للدولة اللبنانية. بهذا المعنى، لم تعد الورقة الأميركية تدور في فلك “النوايا” و”التفاهمات المرحلية”، بل دخلت في عمق المعادلة الداخلية اللبنانية، وطرحت بند السلاح كملف حتمي للحلّ، لا يقبل المساومة أو التأجيل.
اللافت أنّ الدولة اللبنانية تبدو – مرّة جديدة – وكأنها وسيط في هذا الملف لا طرفًا أصيلاً. لا تملك معطيات دقيقة عن حجم الترسانة العسكرية التي يملكها الحزب، ولا عن أماكن انتشارها، ولا حتى عن القرار الفعلي باستخدامها. وهي إذ تفاوض المبعوث الأميركي، تفعل ذلك من موقع من لا يعلم… ومن لا يملك.
في المقابل، ما من وهم حول مَن يملك. القرار بشأن سلاح “حزب الله” لا يُتخذ في بيروت، ولا حتى في الضاحية الجنوبية. إنّه يُصنع في طهران، حيث ما تزال إيران تعتبر أنّ السلاح جزء من “ترسانة الإقليم” ومكوّن تفاوضي في أي صفقة كبرى مع واشنطن. صحيح أن هذا السلاح قد حيّد في الفترة الأخيرة، وبات غير قابل للاستخدام الفعلي في أي حرب واسعة (خصوصًا بعد الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران)، لكن هذا لا يعني أن طهران تخلّت عنه أو فقدت السيطرة عليه. لا بل على العكس، ما يزال يُستخدم ورقة تهديد وصرف سياسي في ملفات تمتدّ من غزة إلى اليمن، مرورًا بسوريا والعراق.
وإذا كانت إيران تقول صراحة “اطلبوا من الحزب ما تشاؤون، لا علاقة لي”، فإن الحزب يردّ بدوره بالشروط: انسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي اللبنانية، تسليح الجيش بأسلحة نوعية، وتعديل الطائف لضمان التوازن السياسي للطائفة الشيعية. شروط أقرب إلى المعادلات المستحيلة منها إلى خطة واقعية قابلة للتنفيذ، ما يكشف أن الحزب لا ينوي التفاوض فعليًا بل يشتري الوقت.
وفي هذا الفراغ، تدخلت الرياض على خط الأزمة، برسالة مباشرة من الأمير يزيد بن فرحان إلى قصر بعبدا مفادها: “لا حوار حول السلاح بعد اليوم. المطلوب تنفيذ فوري، وإلا فإن مصيرًا سوداويًا ينتظر لبنان”. موقف سعودي حاسم يعكس مستوى التململ الإقليمي من بقاء الوضع اللبناني على هذا النحو: دولة معلقة، واقتصاد منهار، ومؤسسات شبه مشلولة، بينما السلاح خارج أي رقابة أو شرعية وطنية.
في هذا المشهد، يصبح الحديث عن “الإنقاذ” ضربًا من الخيال ما لم يبدأ بالاعتراف بالحقيقة: سلاح “حزب الله” لم يعد مجرّد ملف خلافي داخلي، بل بات العائق الرئيسي أمام استعادة لبنان عافيته السياسية والاقتصادية. لم يعد هناك متّسع للمناورات، ولا مكان للبيانات الرمادية. إن حصر السلاح بيد الدولة هو المدخل الإجباري للنهوض من الانهيار، وللخروج من منظومة العزلة التي تحيط بلبنان عربيًا ودوليًا.
ما تُطالب به واشنطن اليوم – وإن بدا قاسيًا – هو في جوهره مطالبة باسم اللبنانيين جميعًا، أولئك الذين يدفعون ثمن الانهيار والفساد والسلاح الخارج عن الدولة. وما لم يجرؤ الحكم في لبنان على اتخاذ القرار، فإن الخارج سيتّخذه عنه، وحينها لن يكون لدى أحد ترف الاعتراض.