لا شيء يحدث في السويداء إلاّ وله صدى يتردّد في عمق الجغرافيا السورية وفي عمق الحسابات الإقليمية. المعركة هناك لم تكن يومًا محصورة في تلال الجبل، ولا محصورة بين طائفة وبدو. هي واحدة من تلك اللحظات المفصلية التي تكشف أن الشرق الأوسط لا يزال هشًّا، وأنّ لبنان، رغم ضعفه، لا ينفكّ يجد نفسه في مهبّ كل عاصفة تهب من الجوار.
الهجوم الإسرائيلي على مبنى وزارة الدفاع في دمشق لم يكن “غارة موضعية” كما قيل، بل ضربة استخباراتية مركّبة أرادت قتل الوزير ملهم أبو قصرة في قلب العاصمة. 340 قتيلًا، نفق عسكري محصّن أنقذ الوزير، و270 ضربة نفّذتها طائرات ومسيّرات خلال خمس ساعات، تخللتها تنبيهات تركية دقيقة وصلت قبل الغارات بعشر دقائق، سمحت بإخلاء مواقع حسّاسة. كل ذلك لم يكن صدفة. هذه ضربة محسوبة، وفي توقيت محسوب، في ذروة النزاع بين الدروز والعشائر في السويداء.
وفي الوقت الذي كانت فيه وسائل الإعلام الغربية تتحدّث عن “انسحاب الجيش السوري من السويداء” باعتباره هزيمة، كانت القوات الحكومية تعيد التموضع، وتترك آلياتها الثقيلة وتدخل بلباس الأمن العام، وتراقب بصمت مسرح الاشتباك من الأطراف. العملية كانت سياسية – استخباراتية بامتياز، لا تراجعًا ولا انكسارًا. النظام يراقب المعركة الأخيرة التي يخوضها الشيخ حكمت الهجري وحيدًا، بعد أن فرض الاتفاق الأميركي مع السويداء طوقًا سياسيًا وعسكريًا حوله، ودفع بكثير من الفعاليات الدرزية إلى التماهي مع الدولة، أو على الأقل إلى تجنّب التصعيد.
واشنطن كانت الحاضر الأكبر خلف الكواليس. هي من رعَت الاتفاق بين العشائر والدروز، وهي من ضمنت تعهّد إسرائيل بوقف العمليات في العمق، والاكتفاء بـ”تحصين المنطقة العازلة” التي سعت إليها على عمق يتراوح بين 35 و60 كلم داخل الأراضي السورية. لكن الاتفاق لم يُنفَّذ كما يجب. عشائر البدو لم تسلّم أسلحتها الثقيلة، والهجري لم يتراجع، بل طالب مجددًا بحماية دولية للطائفة الدرزية، الأمر الذي اعتبرته دمشق تجاوزًا للخطوط الحمر.
لبنان لم يكن بعيدًا من هذا المشهد. فعلى الهامش، ثمّة تحركات سورية رسمية لإعداد مذكّرة توقيف بحق الوزير اللبناني السابق وئام وهاب بتهمة “إشعال الفتنة الطائفية والإساءة للدولة السورية”، وهي خطوة غير مسبوقة تعكس حجم الضيق الذي بلغته دمشق من تدخّل بعض السياسيين اللبنانيين في الملف الدرزي الداخلي، أو محاولتهم الاستثمار فيه لحسابات طائفية داخل لبنان.
الاشتباكات لم تهدأ بعد، بل تتنقّل بين حي الثورة ودوار العمران وسوق الهال. العشائر فتحت محوري شهبا وعتيل، وتحاول حسم المعركة قبل تثبيت وقف إطلاق النار، لتسجّل “نصراً معنوياً” تفرضه في التفاوض النهائي. في المقابل، قوات الهجري استعانت بضباط إسرائيليين في التخطيط، وبعض الذخائر التي وصلت إلى الدروز ليست إسرائيلية كما قيل، بل فرنسية قديمة كانت بحوزة النظام قبل سقوطه، واستُخدمت في الدفاع عن معاقل الهجري.
النقص الذي يعانيه الدروز في المحروقات والغذاء والطبابة، لا يُقارن بما لديهم من مخزون ذخائر جزء منه غنموه من الفرقة الخامسة. لديهم القدرة على الاستمرار في القتال لأسابيع، لكن القدرة على الصمود السياسي تتناقص مع مرور الوقت. هذا ما تراهن عليه دمشق، التي ما زالت حتى اليوم تُبقي قواتها عند تخوم السويداء، تنتظر التعليمات.
اليوم، وفي حال لم يتم اعتراض القوافل، قد تدخل سيارة إسعاف وآلاف وحدة غذائية ومساعدات طبية. وهذه ليست سوى المرحلة الأولى من خطة أعدّتها وزارة الداخلية، تشمل إعادة الانتشار بقوات نظامية بلباسها الكامل وشعاراتها الرسمية، مع تعليمات مشدّدة بعدم التصوير أو استخدام العنف. الرسالة واضحة: الدولة تعود… ولكن بشروط جديدة.
في المقابل، لا يزال الأمن العام السوري يتوقع تنفيذًا شاملًا لاتفاق إطلاق النار خلال يومين، رغم كل الخروق. ما يعطّل المسار حتى اللحظة هو رغبة الطرفين في تسجيل انتصار رمزي. عشائر البدو تريد فرض أمر واقع عبر الكثافة العددية والضغط الميداني، والهجري يريد انتزاع اعتراف سياسي بتمثيله الحصري للدروز، وهذا ما لم يعد ممكنًا بعد عزله من الطيف الأوسع من القيادات.
هناك قناعة تتبلور في دمشق، بأن ما جرى لم يكن سوى محاولة لتقسيم الجنوب السوري برعاية إسرائيلية. محاولة استُخدم فيها الهجري كأداة، ثم تُرك وحيدًا بعدما استنفد دوره. الإدارة تعتبر أنّ كسر مشروع التقسيم، وتثبيت اتفاق الحد الأدنى مع الدروز الآخرين، وإعادة التموضع العسكري التدريجي، هو انتصار استراتيجي أكثر من كونه ميدانيًا.
الشرق الأوسط يتقلّب فوق صفيح من الفوضى المبرمجة. من غزة إلى الجنوب السوري، ثم العراق ولبنان، كل جبهة مشتعلة تُدار من غرفة عمليات واحدة. لا تعني الأحداث في السويداء السوريين وحدهم، بل تنسحب على كل المنطقة. أمن لبنان الجنوبي بات جزءًا من تفاهمات الكبار في الجنوب السوري، وميزان القوى بين الجماعات المسلحة والجيش السوري قد ينعكس على توازن المجموعات اللبنانية المسلحة مع الجيش اللبناني في لحظة ما.
الهدنة، إن حصلت، قد تكون لحظة هدوء موقت. أما إذا تفجّر الوضع مجددًا، فستجد المنطقة نفسها أمام مواجهة مفتوحة قد تتدحرج من السويداء إلى درعا، ومن هناك إلى الحدود اللبنانية – السورية، حيث لا يزال كثيرون يراهنون على فوضى كبرى تسبق تسوية إقليمية شاملة.
هل تنجح دمشق في ضبط هذه المعادلة؟ أم أن واشنطن، عبر أدواتها، تفتح جبهة السويداء لفرض تسوية سورية – إسرائيلية من الخلف؟ كل الاحتمالات واردة. لكن الأكيد أن صمت المدافع لا يعني انتهاء المعركة، بل بداية فصل جديد من معارك النفوذ.