ما إن جفّ حبر الاتفاق النووي الموقّع في فيينا العام 2015، حتى بدأت ملامح الصراع المقبل تتشكّل. إدارة الرئيس الاميركي باراك أوباما كانت قدّمت تنازلات كبرى لتأمين الاتفاق، لكنها تركت خلفها إرثًا ثقيلًا في الداخل الأميركي، حيث اتهمها الجمهوريون بتقديم “رشوة استراتيجية” لإيران مقابل التهدئة النووية، من دون معالجة النفوذ الإقليمي المتنامي لطهران. كان واضحًا أن مستقبل الاتفاق مرهون بخليفة أوباما في البيت الأبيض.
حين دخل دونالد ترامب البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) 2017، حمل معه موقفًا عدائيًا حادًا تجاه الاتفاق. وصفه بأنه “أسوأ صفقة في التاريخ”، وتعهّد بتمزيقه. خلف هذا الموقف كانت تقف قناعة أيديولوجية عميقة لدى تيار المحافظين الجدد والمحيطين بالرئيس، بأنّ إيران لا يمكن الوثوق بها، وأنّ سلوكها في المنطقة – في العراق، وسوريا، واليمن، ولبنان – هو امتداد مباشر لقوتها النووية الكامنة. بالنسبة إلى هؤلاء، لا جدوى من احتواء إيران، بل لا بد من كسرها.
في 8 أيار (مايو) 2018، أعلن ترامب رسميًا انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، ووقّع على إعادة فرض العقوبات الأميركية على طهران، بما فيها الحزمة الأشد التي طالت صادرات النفط والمعاملات البنكية والشركات الأجنبية المتعاملة مع إيران. الخطوة جاءت رغم اعتراضات الحلفاء الأوروبيين الذين سعوا إلى الحفاظ على الاتفاق، معتبرين أنّ طهران تفي بالتزاماتها بحسب تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
انسحاب ترامب لم يكن مجرّد قرار سياسي، بل كان إعادة إطلاق حرب اقتصادية شاملة ضد إيران. عقيدة “الضغط الأقصى” التي تبنّتها الإدارة الأميركية، استهدفت خنق الاقتصاد الإيراني بالكامل: صادرات النفط انخفضت من أكثر من 2.5 مليون برميل يوميًا إلى أقل من 500 ألف، قيمة الريال الإيراني تهاوت، وعاد التضخم إلى معدلات خانقة، في حين انسحبت شركات أوروبية كبرى من السوق الإيراني تحت التهديد بالعقوبات.
في المقابل، أعلنت إيران سياسة “الصبر الاستراتيجي”، وامتنعت في البداية عن الرّد المباشر. لكنها سرعان ما وجدت نفسها أمام مأزق داخلي خانق وضغط شعبي متصاعد. في أيار (مايو) 2019، بعد عام على الانسحاب الأميركي، أعلنت طهران بدء التراجع التدريجي عن التزاماتها في الاتفاق، وفقًا لمراحل محسوبة: زيادة نسبة التخصيب إلى أكثر من 3.67%، ثم تخطّي سقف 300 كلغ من اليورانيوم المخصّب، وتشغيل أجهزة طرد متطوّرة، وصولًا إلى تقليص التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
كل ذلك جرى ضمن لعبة مدروسة: خطوات محسوبة بدقة، مع التأكيد في كل مرة أنّ طهران لا تزال مستعدّة للعودة إلى الاتفاق إذا رُفعت العقوبات. لكن على الأرض، كانت الأمور تتجّه نحو التصعيد. ففي صيف 2019، وقعت سلسلة من الهجمات الغامضة على ناقلات نفط في الخليج، ثم إسقاط طائرة أميركية مسيّرة فوق مضيق هرمز. ذروة التصعيد جاءت في 3 كانون الثاني (يناير) 2020، حين اغتالت الولايات المتحدة الجنرال قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري، بضربة جوية قرب مطار بغداد.
ردّ إيران على الاغتيال كان عسكريًا محدودًا، لكنه اتخذ في الوقت نفسه قرارًا نوعيًا: التخلي بالكامل عن قيود الاتفاق النووي، بما في ذلك عدد أجهزة الطرد ونسب التخصيب. صحيح أنّ طهران أبقت على تعاون تقني محدود مع الوكالة الدولية، لكنها أرسلت رسالة صريحة مفادها أنّها لم تعد ملزمة بأي التزام طالما بقيت العقوبات قائمة.
النتيجة كانت إعادة إيران فعليًا إلى ما قبل اتفاق 2015، لكن مع فارق جوهري: هذه المرة، كانت تمتلك خبرة تقنية أوسع، مخزونًا أكبر من المواد المخصّبة، وقدرة متقدّمة على تشغيل أجهزة طرد من الجيل الأحدث (IR-6)، ما جعل الزمن اللازم لامتلاك “قدرة صنع سلاح” أقصر بكثير مما كان عليه قبل الاتفاق.
في هذه المرحلة، بدا أنّ حلم الاتفاق انكسر، وأنّ سنوات من التفاوض انتهت إلى لا شيء. لكن خلف الضباب، كانت المؤشرات تتغيّر. فبينما راهن ترامب على انهيار النظام الإيراني تحت الضغط، لم يتحقّق هذا الهدف، بل العكس: استطاعت طهران امتصاص الصدمة، والتأقلم مع الحرب الاقتصادية، مستفيدة من دعم صيني وروسي، ومن ثغرات في العقوبات الأميركية.
وهكذا، حين دخل جو بايدن البيت الأبيض العام 2021، كانت العودة إلى الاتفاق مطروحة مجددًا، ولكن ضمن مشهد أكثر تعقيدًا، وأطراف أكثر تشددًا، وثقة دولية باتت مهشّمة.