في العام 2002، اخترقت كلمة “نطنز” المشهد الدولي فجأة، لتتحوّل إلى رمز لصراع طويل بين إيران والغرب، ولتصبح عنوانًا لحلقة جديدة من التوترات الإقليمية والدبلوماسية المعقّدة. ففي ذلك العام، نظّمت جماعة “مجاهدي خلق” المعارضة مؤتمراً صحافياً في واشنطن، كشفت فيه عن موقعين نوويين غير معلنين في إيران: منشأة لتخصيب اليورانيوم في نطنز، ومنشأة لإنتاج الماء الثقيل في أراك. هذان الكشفان، اللذان تبين لاحقًا صحتهما، شكّلا نقطة تحوّل فاصلة في نظرة المجتمع الدولي إلى النوايا النووية الإيرانية.
الرّد الغربي لم يتأخر. فقد سارعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى فتح تحقيق، وأوفدت خبراءها إلى إيران لزيارة المواقع. ومع توالي عمليات التفتيش، اتّضح أنّ طهران أخفت بالفعل أنشطة ذات صلة بالتخصيب لسنوات، وأنّها استوردت تقنيات من مصادر غير شفافة، بينها أجهزة طرد مركزي من تصميم باكستاني عبر شبكة عبد القدير خان. أكثر من ذلك، تبين أن إيران أجرت تجارب تخصيب في منشأة سرية بجامعة طهران تعود للثمانينيات، دون أن تُبلغ الوكالة كما ينصّ عليه البروتوكول.
الخطورة لم تكن فقط في التعتيم الذي مارسته إيران، بل في نوعية الأنشطة التي كانت بدأتها. ففي نطنز، كانت إيران نصبت بالفعل أكثر من 160 جهاز طرد مركزياً من طراز P-1، وبدأت تجارب تخصيب بقدرات أولية. وفي أراك، كانت تبني مفاعلًا يعمل بالماء الثقيل، وهو نمط من المفاعلات يسمح بإنتاج البلوتونيوم، أحد مكونات السلاح النووي. هذه المعطيات دفعت القوى الغربية إلى التعامل مع الملف الإيراني كقضية أمن دولي، لا مجرد انتهاك تقني.
في العام 2003، ومع تصاعد الضغوط، دخلت إيران في مفاوضات مع ترويكا أوروبية (ألمانيا، فرنسا، بريطانيا) وأسفرت المحادثات عن توقيع “اتفاق طهران”، وافقت فيه طهران طوعًا على تعليق أنشطة التخصيب موقتًا، والسماح بعمليات تفتيش أكثر توسّعًا. كما وقّعت بروتوكولًا إضافيًا للوكالة الدولية يتيح للمفتشين وصولًا أوسع إلى المواقع والمعلومات. لكن هذا التعليق لم يكن طويل الأمد، إذ سرعان ما عادت الخلافات إلى الواجهة، خصوصًا مع انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسًا في العام 2005، الذي تبنّى خطابًا متشددًا تجاه الغرب وأعاد تشغيل أجهزة الطرد المركزي في نطنز.
في العام 2006، أعلنت إيران رسميًا أنها “دخلت النادي النووي”، بعد نجاحها في تخصيب اليورانيوم بنسبة 3.5% في نطنز. هذه النسبة تُعدّ مناسبة للاستخدام المدني في محطات الطاقة، لكنّها تشكّل أيضًا حجر الأساس لعمليات تخصيب أعلى قد تصل إلى مستوى صنع السلاح. المجتمع الدولي ردّ بقوة، بحيث بدأت العقوبات الأممية تأخذ مسارها التصاعدي. مجلس الأمن أصدر سلسلة قرارات بين 2006 و2010، فرض حظرًا على توريد المواد والتقنيات النووية والعسكرية، وجمّد أصول مؤسسات وشخصيات إيرانية يُعتقد أنها على صلة بالبرنامج.
في الوقت نفسه، بدأت واشنطن حملة ضغط اقتصادي موازية، استهدفت القطاع المالي الإيراني، وشجعت المؤسسات الدولية على تجنّب التعامل مع البنوك الإيرانية. بالتوازي، صعّدت إسرائيل من ضغوطها الاستخباراتية، ونفّذت عمليات تخريب سرّية استهدفت البرنامج. ففي 2007، تعرّض عدد من العلماء الإيرانيين لمحاولات اغتيال، وتوالت في السنوات اللاحقة عمليات اغتيال ناجحة، منها مقتل العالم مسعود علي محمدي (2010) ومهندس الصواريخ مجيد شهرياري.
كل ذلك قاد إلى مرحلة جديدة من المواجهة، بحيث أصبح واضحًا أن النزاع لم يعد تقنيًا، بل تحوّل إلى أزمة سياسية استراتيجية بين إيران من جهة، والقوى الغربية وإسرائيل من جهة أخرى. في هذه المرحلة، لم يكن أحد يناقش شرعية امتلاك إيران للطاقة النووية المدنية، بل كانت القضية تدور حول ما إذا كان سلوك طهران يُخفي نية عسكرية بعيدة المدى.
وعلى الرغم من إصرار إيران على أن برنامجها سلمي بالكامل، فإنّ غياب الشفافية، والتخبّط في المواقف، والأنشطة غير المعلنة، جعلت الثقة بينها وبين الوكالة الدولية تصل إلى أدنى مستوياتها. وفي العام 2010، بلغت الأزمة ذروتها مع انكشاف فيروس “ستاكسنت”، وهو هجوم سيبراني معقّد استهدف منشأة نطنز ودمّر مئات أجهزة الطرد المركزي، في أول استخدام علني للقرصنة كسلاح ضد منشأة نووية.
وهكذا، دخل البرنامج النووي الإيراني في عقد حاسم من التوتر، تخلّلته محاولات تفاوض وعقوبات وتخريب واغتيالات. وبينما كانت إيران تواصل مسيرتها نحو استكمال الدورة النووية، كانت القوى الكبرى تستعد لمرحلة جديدة من المفاوضات… لكن بشروط مختلفة.