حين وقّعت إيران في العام 1957 اتفاقًا مع الولايات المتحدة ضمن برنامج “الذرّة من أجل السلام”، لم يكن أحد يتخيّل أنّ هذه الخطوة ستكون البذرة الأولى لواحد من أكثر البرامج النووية إثارةً للجدل في الشرق الأوسط. فالشاه محمد رضا بهلوي، الذي كان يرى نفسه لاعبًا إقليميًا يحاكي القوى العظمى، لم يكن يسعى فقط لتحديث بلاده صناعياً وعسكرياً، بل أراد أيضًا أن يجعلها قادرة على امتلاك أدوات الردع السياسي والاقتصادي، والنووي في مقدّمها.
في سنوات ما بعد الانقلاب الأميركي على رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق في العام 1953، كانت العلاقات بين طهران وواشنطن في أوجها. فالشاه، الحليف الموثوق للغرب، حصل على دعم تقني نووي من الولايات المتحدة ضمن التعاون المدني، شمل تزويده بمفاعل أبحاث صغير (مفاعل طهران للأبحاث TRR) بقدرة 5 ميغاواط يعمل على اليورانيوم المخصّب بنسبة 93%، وهو مستوى مرتفع جدًا حتى بمقاييس اليوم. كما بدأت إيران تتلقّى تدريبات من وكالة الطاقة الذرية الأميركية وشاركت في مؤتمرات نووية دولية… ثم في 1967، أُنشئ مركز طهران للبحوث النووية بدعم كامل من واشنطن.
بالتوازي، سعت إيران إلى عقد شراكات استراتيجية مع دول أوروبية، فدخلت في اتفاقيات مع ألمانيا الغربية وفرنسا لبناء محطات توليد طاقة نووية. بل إنّ فرنسا سمحت لطهران بالاستثمار في شركة “يورو ديف” الأوروبية لتخصيب اليورانيوم، في خطوة تعكس مدى الثقة الغربية حينها بإيران كطرف يمكن الركون إليه في مشاريع نووية سلمية. وأُعلن رسميًا عن خطة طموحة لبناء أكثر من 20 مفاعلًا نوويًا لتوليد الكهرباء بحلول العام 1995.
لكن الشاه لم يكن صريحًا دومًا حول أهدافه. فخلف الكواليس، هناك ما يشير إلى أن طهران كانت تفكّر بمستويات أعلى من القدرات النووية، بما فيها خيار “القدرة على صنع سلاح عند الحاجة”، وهو ما يُعرف اصطلاحًا بـ”threshold capability”. هذا التفكير تأثر بالقلق الإيراني من سباق التسلّح الإقليمي، خصوصًا بعد حرب 1973، وتزايد المؤشرات على امتلاك إسرائيل قدرات نووية غير مُعلنة.
عام 1974، أعلن الشاه صراحة أن إيران بحاجة إلى الطاقة النووية “ليس فقط لتلبية حاجاتها، بل لأن احتياطات النفط لن تدوم للأبد”. لكن بعض التقارير السرية، التي كُشف عنها لاحقًا، أشارت إلى أن إيران كانت تسعى لامتلاك دورة وقود نووي كاملة، تشمل التخصيب وإعادة المعالجة. وكان هذا كفيلًا بأن يضعها في مسار مزدوج الاستخدام: مدني – عسكري.
رغم توقيع إيران على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT) العام 1968 وتصديقها عليها في 1970، فإنّ تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يكن شفافًا دائمًا، خصوصًا في ما يتعلق بطموحاتها بعيدة المدى في التخصيب المحلي. ومع ذلك، لم تُطرح حينها شكوك جدّية دولية حول نيّات طهران، نظرًا لثقة الغرب الكبيرة بشخص الشاه ودوره في مواجهة المدّ السوفياتي في المنطقة.
لكن كل هذا تغيّر مع الثورة الإسلامية عام 1979. فالنظام الجديد بقيادة الخميني كان معاديًا بطبعه لكل ما ارتبط بـ”إرث الشاه”، والبرنامج النووي لم يكن استثناءً. فجُمّدت أغلب المشاريع، وطُرد الفنيون الأجانب، وتوقّف التعاون مع فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة. مفاعل بوشهر الذي بدأ الألمان ببنائه لم يُستكمل. وكل ما بنته إيران في عهد الشاه دخل مرحلة شلل تام، بل إنّ بعض القادة الجدد رأوا في الطاقة النووية “بدعة غربية” لا تتماشى مع الرؤية الإسلامية للدولة.
وبهذا، انتهت المرحلة الأولى من تاريخ البرنامج النووي الإيراني عند تقاطع حاد: من طموحات الشاه التي لامست حدود السلاح النووي إلى انكفاء الثورة الإسلامية ومحاولة دفن المشروع تحت عباءة العداء للغرب. لكن كما سيتضح لاحقًا، فإنّ هذا المشروع لم يمت… بل دخل سباتًا طويلًا قبل أن ينهض من جديد، ولكن هذه المرّة تحت شعار “الحق في التخصيب”، لا “الذرّة من أجل السلام”.