في خطوة قد تعيد تشكيل المشهد السوري برمّته، نقل وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن، ردّ دمشق على العرض الأميركي الذي كان مطروحًا منذ أسابيع ضمن قناة تفاوض غير معلنة.
الرد جاء إيجابيًا إلى حدّ بعيد، متجاوزًا سقوف التوقّعات الغربية، ودافعًا بملف العلاقات السورية – الأميركية إلى نقطة غير مسبوقة منذ العام 2011… وهي التي أدت لاحقاً إلى رفع العقوبات عن دمشق خلال قمة الرياض مع الرئيس الاميركي دونالد ترامب، ثم لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع.
الردّ السوري حمل في حينه 6 بنود مفصلية، وافقت عليها دمشق، وفتحت الباب اليوم أما إعادة الإعمار، وترميم البنى التحتية والاستثمارات.
– البند الأول من الردّ تضمّن الموافقة على حظر جميع التنظيمات الفلسطينية الموجودة في سوريا، وهو تحوّل نوعي في تموضع دمشق الإقليمي، وقطع واضح مع مرحلة كان يُنظر فيها إلى هذه التنظيمات كأذرع استراتيجية للنظام السوري في وجه إسرائيل.
– في البند الثاني، وافقت دمشق على تشكيل لجان مشتركة مع الجانب الأميركي لمعالجة ملف المقاتلين الأجانب، مع عرض خطير في طبيعته: دمج هؤلاء في المجتمع السوري، ومنحهم الجنسية، وضمان عدم تشكيلهم لأيّ تهديد على الأمن الأميركي والدولي، وهي خطوة تحمل دلالات أمنية وجيوسياسية شديدة الحساسية.
– في البند الثالث، تعهّدت سوريا بوقف كل التعيينات العسكرية للأجانب، وبتجميد أي امتيازات تُمنح لهم إلى حين الانتهاء من معالجة الملف، ما يعني فعليًا إنهاء النفوذ الميداني للميليشيات العابرة للحدود التي لطالما اتُّهمت بتقويض السيادة السورية وبالتبعية لإيران.
– أما البند الرابع، والذي قد يكون الأكثر حساسية، فحمل الموافقة على التطبيع مع إسرائيل والسير في عملية سلام يقودها دونالد ترامب شخصيًا، مقابل انسحاب إسرائيلي من المناطق المحتلة حديثًا (دون التطرق إلى مصير الجولان)، وهو ما يكشف عمق التحوّل في الحسابات السورية – وربما استعدادها للتنازل عن ثوابت تاريخية مقابل مكاسب داخلية استراتيجية.
– البند الخامس ركّز على ضمان مصالح واشنطن العسكرية في سوريا، وتأمين الحماية لقواعدها في حال تقرر بقاؤها، في تطور يحمل طابعًا وظيفيًا بالغ الوضوح، يربط مستقبل الحضور الأميركي بترتيبات أمنية محلية سورية.
– وفي البند السادس، أبدت دمشق استعدادها لإطلاق مفاوضات ترعاها واشنطن من أجل ترسيخ اللامركزية الإدارية للدروز في الجنوب، والأكراد في الشمال، في ما يشبه “الفدرلة المقنّعة” للمشهد السوري تحت إشراف مباشر من البيت الأبيض.
اللافت أنّ ملف تقليص الوجود الروسي في سوريا طُرح خلال النقاشات، لكنّه لم يُبتّ بعد. دمشق طلبت التريث، مشيرة إلى أنّ الجيش السوري لا يزال يعتمد كليًا على منظومة التسليح الروسية، ممّا يجعل أيّ تخفيض سريع للنفوذ العسكري الروسي خطوة محفوفة بالمخاطر. ومع ذلك، فإنّ مجرّد طرح هذا البند يُعدّ مؤشرًا على استعداد النظام السوري لتقديم تنازلات كبرى، في حال حصل على ضمانات كافية من واشنطن.
ويبدو أن موافقة الإدارة الأميركية على الردّ السوري، هي التي مهدت الطريق إلى لقاء الشرع – ترامب في السعودية. وهو ما كان بمثابة إطلاق رسمي لـ”صفقة القرن السورية” الجديدة، ولكن بأبعاد تتجاوز حدود سوريا.
وبين السطور، تُسجَّل نقطة لافتة لم تُطرح في واشنطن: ملف مزارع شبعا، وهو تقاطع جغرافي وسياسي بين سوريا ولبنان وإسرائيل. عدم التطرّق إليه قد يكون مقصودًا، على اعتبار أنّ حلّه قد يُرحّل إلى مرحلة لاحقة ضمن اتفاق ثلاثي برعاية أميركية، يُغلق فيه هذا الملف المزمن عبر تسوية تُراعي الهواجس اللبنانية، وتحفظ التوازن الحدودي بين الأطراف الثلاثة.
الردّ السوري في مضمونه يبدو أقرب إلى “ورقة تفاهم استراتيجية”، ويفتح الباب أمام إعادة تموضع سوري – إقليمي كبير. لكنه في الوقت نفسه، يطرح تساؤلات عن مصير التحالفات التقليدية لدمشق – الأسد، من طهران إلى موسكو. كذلك، فإنّ غياب الحديث عن الجولان في ملف التطبيع مع إسرائيل، يثير قلقًا في الأوساط الممانعة، ويطرح فرضية التسليم السوري الضمني بفقدان هذه المنطقة، مقابل تسوية أوسع تحفظ بقاء النظام وتكفل إعادة إعمار البلاد.
سوريا تدخل بهذا العرض نادي التفاهمات الكبرى، لكنّها في المقابل، تودّع منطق “المقاومة التقليدية” الذي قامت عليه عقيدتها السياسية لعقود.