في بلدٍ تمزقه ذاكرة الطرد وتطوقه ظلال الإلغاء، يتقدم نيجيرفان بارزاني إلى المنصة… لا ليلقي خطبة سياسية أخرى تُلقى للنسيان، بل ليقول جملة بسيطة: “كردستان وطن للجميع”. لا شيء أكثر بساطة… ولا أكثر راديكالية في العراق 2025.
رئيس الإقليم لم يوجّه كلمته لقاعة جامعة، ولا لجدران قاعة أكاديمية مزدحمة بالرموز والياقات البيضاء، بل تحدث إلى فكرة الوطن بصيغتها المجردة، تلك التي أصبحت اليوم نادرة في عالمٍ تُقاس فيه الحقوق بمعايير الطائفة والامتيازات بما يمنحه السلاح لا الدستور.
في بلدٍ تعلّم فيه الناس أنّ لا أحد يبقى، وأن النجاة تُشترى بجواز سفر أو توصية من جهة نافذة، قال بارزاني ما يشبه إعلان نوايا: المسيحيون ليسوا ضيوفًا، ولا جالية أجنبية، ولا أقلية تنتظر الشفقة. إنهم شركاء أصيلون. يحقّ لهم ما يحق لغيرهم، وميراثهم لا يُحتفظ به على رفوف الذاكرة بل في قانون واضح وصريح. هنا تكمن الجرأة السياسية.
الرسالة لم تكن فقط للمسيحيين. بل كانت “مشفّرة” لكل من يشعر بأنّه “استثناء” في وطنه. لمن قالوا له مراراً إنّه يعيش في “الهامش”، وإن انتماءه “ظرفي” أو “مؤقت”. بارزاني لم يمنحهم حقوقهم كما يفعل الحاكم في لحظة صفاء، بل ذكّر بأنّهم لم يكونوا يوماً خارج الصورة.
لكن ما يميّز هذا الخطاب ليس النبرة التطمينية فحسب، بل قدرته على أن يكون إنسانياً من دون أن يكون عاطفيًا. هادئاً من دون أن يكون باردًا. إذ تحدث عن أوقاف المسيحيين لا كممتلكات قابلة للتفاوض، بل كجزءٍ من ذاكرة العراق نفسه. كل حجرٍ في تلك الكنائس، كل قطعة أرض خُصصت لمستشفى أو مدرسة، هي دليل على أن هذه المكونات كانت هنا، بقوة، وبجمال.
السياسة هنا لا تلعب دور الراعي، بل الحارس. بارزاني دعا لتشريع قانون يحمي هذه الأوقاف، يطلب إدارة مدنية تُمنح فيها الكنائس صلاحياتها، ويحذر – من دون أن يرفع صوته – من أنّ الهجرة ليست دائماً اختياراً، بل أحياناً نتيجة شعور مزمن بأن الأرض لم تعد لك.
قد يرى البعض في هذه الكلمة واجباً بروتوكولياً، لكنّها أبعد من ذلك. في العراق الذي ما زال يتعثر في تعريف دولته، تأتي هذه الكلمات كمحاولة لإعادة تعريف العلاقة بين المواطن ومؤسسات الحكم. في لحظة إقليمية حساسة، حيث تُستخدم الأقليات كورقة تفاوض أو ابتزاز، يعيد نيجيرفان سرد القصة من منظور الشراكة لا التعايش الموقّت.
حين يقول “إنّ التنوع ليس شعارًا بل قوة”، فهو لا يدغدغ المشاعر بل يضع معادلة واقعية للاستقرار: كردستان لا تكون قوّية بانغلاقها، بل بانفتاحها. لا تكون آمنة بعسكرة الداخل، بل ببناء الثقة مع كل مكوناته، صغيرة كانت أو كبيرة. لأنّ من يشعر أنه في بيته، سيحميه… ومن يشعر أنه مؤقت، سيبحث عن وطن آخر.
والحقيقة أنّ هذا النوع من الخطاب لا يصدر إلاّ عن شخص يعرف هشاشة المكان، ويعرف أيضاً كيف يحميه. يعرف أنّ كردستان، بكل ما حققته، لا تزال تحت التهديد: من الداخل بالتنافس والانقسام، ومن الخارج بضغوط إقليمية لا تريد لها أن تنجح كمشروع ديمقراطي ولو نسبي.
في النهاية، بارزاني لم يقدم خطاب طمأنة فقط، بل قدّم رؤية سياسية كاملة: الأقلية ليست عبئًا، بل فرصة. والمواطنة ليست وثيقة، بل علاقة ثقة متبادلة. وإذا كانت كوردستان ستنجح في هذا الطريق، فسيكون هذا النوع من الخطاب، وهذه السياسات، حجر الزاوية.
هل نصدّق الخطاب؟ هذا بحث آخر يُترك للقراء. لكن في بلد نَدَر فيه أن تجد من يقول “نحن معاً، لا بالرغبة بل بالحق”، فإن مجرد قول ذلك هو فعل مقاومة… وهو ما فعله نيجيرفان بارزاني في تلك القاعة.