يشهد المجتمع السعودي منذ العام 2017، انفتاحاً اجتماعياً وثقافياً وفنّياً متسارعاً يقوده ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وانتقلت المملكة من تصدير الفكر الوهابي إلى تصدير أعمال درامية تثير الجدل وتفتح باب النقاش حول القضايا السياسية والاجتماعية والدينية الشائكة.
وترى صحيفة “وول ستريت جورنال” أن سلمان هو الرجل الذي غيّر كل شيء، إذ عمل منذ توليه منصب ولي العهد في 2017 على تفكيك النفوذ الوهابي في السعودية، وشنّ حملة قمع شاملة ضد الحرس القديم، واعتقل العديد من الشخصيات الدينية البارزة، من بينها الداعية المعروف سلمان العودة. وقالت الصحيفة إن “بن سلمان الذي انتهج سياسة قمعية ضد معارضيه، عمل خلال السنوات الماضية على تحرير المجتمع السعودي، حيث ارتفعت نسبة النساء بين القوى العاملة بشكل يتجاوز الأهداف الحكومية، وأصبح من العادي رؤية نساء من دون حجاب، واختلاط بين الجنسين، وهي أمور كانت مستحيلة في السابق”.
وبحسب الصحيفة، فإن هذه التحولات تعتبر بالنسبة للكثير من السعوديين، وبخاصة الشباب، بمثابة نسمة هواء منعشة طال انتظارها، لكن المفارقة هي أن سلمان يقاوم التشدد الديني من خلال ممارسة القمع السياسي، وهو ما قد يزرع بذور عدم الاستقرار، وقد يؤدي لاحقا إلى الانفجار.
وترى الصحيفة أن السماح لصناع الدراما بتناول قضايا السلطة والدين والمجتمع يُعتبر خطوة أولى مهمة نحو الحرية. فعلى سبيل المثال، يتناول فيلم “مندوب الليل” (2023)، قصّة رجل فقد وظيفته وتحوّل إلى توصيل الكحول بشكل غير مشروع في الرياض، وكان تناول هذا الموضوع في بلد يُمنع فيه الكحول مفاجئا للعديد من المراقبين في المنطقة.
أمّا مسلسل “معاوية” الذي أنتجته شبكة “أم بي سي” السعودية، وصُوِّرَ في تونس بميزانية تُقدَّر بأكثر من 100 مليون دولار، فشكّل وفق صحيفة “وول ستريت جورنال”، “ظاهرة استثنائية في شهر رمضان بفضل نجاحه الكبير”.
ويستعرض المسلسل حياة معاوية بن أبي سفيان، الذي كان كاتبا للوحي في حياة النبي محمد، ثم أسس الدولة الأموية أولى السلالات الحاكمة بالوراثة في الإسلام. ورأت الصحيفة أن المسلسل لم يلفت الأنظار بسبب ميزانيته الضخمة واللقطات السينمائية المبهرة للقوافل والجيوش والمعارك فقط، بل أيضا بسبب جرأته وخروجه عن المألوف في الدراما الرمضانية التي كانت تتجنّب القضايا الحساسة دينيا وسياسيا.
ووفق الصحيفة، يُعَدّ معاوية من الشخصيات المثيرة للجدل في التاريخ الإسلامي، إذ تولّى الحكم بعد صراع مع علي بن أبي طالب، الخليفة المبجّل لدى الشيعة، مضيفة أن من أهم ما يميّز المسلسل الطريقة التي يُجسّد فيها بطل القصة، بحيث ظهر كشخصية معقّدة تمر بفترات من الاضطراب والشك. وبمجرد عرض المسلسل كانت هناك ردود فعل قوية، فأصدرت جامعة الأزهر في مصر فتوى رأت فيها أنه من “غير المقبول دينيًا” تصوير الصحابة. وحظرت هيئة الإعلام العراقية المسلسل محذّرة من أن محتواه “التاريخي المثير للجدل قد يثير نقاشات طائفية ويهدّد التعايش الاجتماعي”. أما إيران فاتهمت السعودية بإعادة كتابة التاريخ من منظورها الخاص.
وفي أحد المشاهد، يظهر معاوية في مرحلة الشباب واقفاً خارج خيمة يستمع لصوت النبي، مما أثار استنكاراً واسعاً في أوساط المحافظين، وفقاً للصحيفة.
وتعتبر “وول ستريت جورنال” أن مسلسل “معاوية” ليس حدثًا دينيًا وثقافيًا مهمًا فحسب، بل يعكس أيضا تحوّلا سياسيا تاريخيا في السعودية، بحيث كانت المملكة منذ عقود تصدّر “الفكر الوهابي” وهي إيديولوجية تعتمد على التفسير الحرفي للنصوص الإسلامية وتعتبر الانفتاح الثقافي محرّمًا. واشارت الصحيفة إلى أن الدعوة الوهابية تأسّست في القرن الثامن عشر على يد محمد بن عبدالوهاب، وشكلت أساسًا لصفقة تاريخية منحت آل سعود شرعية دينية لتولي مقاليد الحكم، وتعزّز هذا التيار بعد العام 1979، عندما أجبرت الثورة الإيرانية وحادثة حصار المسجد الحرام في مكة السلطات السعودية على تعزيز التحفّظ الديني.