في ذروة اشتعال الحرب بين إيران وإسرائيل، انطلقت ماكينة الإعلام الغربي بموجة اتهامات ضد روسيا.. روّجت هذه الوسائل لرواية تقول إن موسكو تخلّت عن حليفتها إيران، وتركتها تتلقى الضربات الإسرائيلية من دون ردّ أو حتى تنديد حقيقي.
هكذا، وبلغة لا تخلو من التحريض، أراد الغرب أن ينسف صورة روسيا كـ”حليف استراتيجي موثوق”، ويضعها في خانة المناورين الذين يبيعون الحلفاء عند أول منعطف.
لكن الوقائع التي توالت منذ منتصف يونيو/ حزيران 2025، أظهرت صورة مختلفة تمامًا: روسيا لم تتخلّ عن طهران، بل لعبت دورًا مركّبًا بين الحليف والوسيط، بين المندد والمحاور، من دون أن تتنازل عن تحالفها أو مبادئها.
منذ اللحظة الأولى، التي تبلورت فيها مؤشرات الحرب، سارعت موسكو إلى تفعيل قنواتها السياسية والعسكرية والديبلوماسية.. لم تتأخر بيانات الخارجية الروسية في التنديد العلني بأي استهداف للمواقع النووية الإيرانية، وخصوصًا مفاعل بوشهر، حيث يعمل خبراء روس، واعتبر الكرملين أن ضرب هذا المرفق قد يؤدي إلى كارثة نووية تُذكّر بكارثة تشرنوبل.
لم يكن ذلك خطابًا عابرًا، بل تحذيرًا صريحًا إلى إسرائيل والولايات المتحدة معًا، بأن حدود اللعب بالنار ليست مفتوحة، وأن إيران ليست وحدها.
وفي موازاة المواقف العلنية، اشتغلت موسكو على خط الوساطة؛ إذ أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتصالاته مع قادة الأطراف المتنازعين، بمن فيهم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ومسؤولون إيرانيون بارزون، وكذلك مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي حاول أن يظهر وكأنه مستعد لتبنّي مبادرة سلام.
بوتين اقترح وساطة مباشرة تستند إلى ضمانات روسية تسمح بتهدئة التصعيد، من دون المسّ بحق إيران في تطوير برنامج نووي سلمي.. عرضٌ متوازن، لا يُرضي إسرائيل تمامًا، ولا يتبنّى الموقف الإيراني بالكامل، لكنه عرض يحافظ على خيوط اللعبة، ويمنع انفلات الأمور.
الغرب لم يُعجبه هذا التوازن الروسي؛ فحين تكون موسكو هي الطرف القادر على الحديث مع الجميع، تصبح كل قنوات التأثير الغربية ناقصة أو مُقزمة.
ولهذا، جاء الرد عبر محاولة تقويض الدور الروسي إعلاميًّا، عبر الحديث عن “تخلٍّ” غير واقعي، لا تدعمه أي مؤشرات ميدانية. بل العكس هو الصحيح: روسيا لم تكتفِ بالمواقف العلنية، بل دعمت إيران تقنيًّا، وسياسيًّا، وحتى لوجيستيًّا، من خلال ممرات غير مباشرة، وواصلت التنسيق معها في ملفات عدة، من بينها الطاقة، والمجال النووي، والتعاون الدفاعي.
الاتفاقية الإستراتيجية التي وقّعتها موسكو مع طهران مطلع 2025، والتي تمتد لـ20 عامًا، لم تكن ورقة للاستهلاك السياسي؛ لقد صادقت عليها البرلمانات، وبدأ تنفيذ بنودها، خصوصًا في ظل العقوبات الغربية التي تدفع الطرفين لتوسيع تعاونهما.
وحين تعرضت إيران لضربات جوية موجعة، لم تغلق موسكو أبوابها، بل حافظت على الخطوط الساخنة، وعلى تنسيق متواصل مع القيادة الإيرانية، مما أتاح- ولو جزئيًّا- احتواء الموقف ومنع الانزلاق نحو مواجهة شاملة.
في الوقت ذاته، لم تغلق موسكو أبوابها بوجه إسرائيل، وهذا ليس دليلًا على تخلٍّ عن إيران، بل على قدرة نادرة على الفصل بين العلاقة بالحليف، ودور الوسيط. وهو ما لا تستطيع واشنطن أو العواصم الأوروبية أن تقوم به، لأنها منحازة بشكل مفضوح.
ومن هنا، كانت روسيا الدولة الوحيدة التي تحدثت إلى الطرفين دون أن تُستبعد من أحدهما، ودون أن تخسر أوراقها. هذا الدور المزدوج، والمتّزن، لا يعبّر عن تخاذل كما يدّعي الإعلام الغربي، بل عن فهم دقيق لتعقيدات الشرق الأوسط؛ فروسيا تدرك أن تدمير إيران لن يصبّ في مصلحة الاستقرار، ولا في مصلحة الدول العربية التي تحتاج إلى توازن إقليمي يمنع إسرائيل من التفرد.
كما تدرك أن التسرع في الاصطفاف العسكري قد يفجّر المنطقة، ويُسقط كل ما بنته موسكو خلال سنوات من التغلغل في ملفات سوريا، وإيران، ولبنان، وفلسطين.
لا تُبدي الدول الغربية اهتمامًا فعليًّا بنمو اقتصادات العالم العربي؛ لأن صعود دول ذات سيادة مستقلة يهدد واشنطن بفقدان أدوات نفوذها التاريخية، وفي مقدمتها الابتزاز المالي والعسكري.
لهذا السبب، تفضّل الإدارة الأميركية أن تبقى المنطقة في حالة توتر دائم، بما يبرر استمرار الوجود العسكري، ويفتح الأبواب أمام صفقات السلاح، ويعيق ظهور قوى اقتصادية منافسة.
وعلى الضفة المقابلة، ترى إسرائيل في هذا الاضطراب فرصة لتكريس نفسها بوصفها الحليف الأوحد للغرب، بل “الحارس” الوحيد للمصالح الغربية؛ فكلما زاد الانهيار في لبنان، أو تقهقرت البنى التحتية في سوريا، أو تفاقمت المأساة في غزة، بدا المشهد أكثر قابلية لتسويق إسرائيل كأنها الدولة الوحيدة “المستقرة” والصالحة للتعاون.
الغرب لا يريد شركاء عربًا أقوياء، بل مناطق نفوذ سهلة التحكم، وحدائق خلفية تُدار بالضغط والعقوبات والتهديدات. والنتيجة هي أن استمرار الحروب، وتفتيت المجتمعات، وإضعاف الجيوش، كلها تصبّ في خانة واحدة: تعزيز القبضة الإسرائيلية على الإقليم بوصفها “المتفوقة الوحيدة”، عسكريًّا وتكنولوجيًّا واقتصاديًّا.
ومن هنا، يصبح ضرب إيران، أو تحجيم نفوذها، هدفًا غير مرتبط بالملف النووي كما يُشاع، بل أداة لتعطيل أي توازن إقليمي يمكن أن يحدّ من اندفاعة إسرائيل نحو الهيمنة الكاملة.
باختصار، موسكو لم تنكث بوعودها، ولم تتخلَّ عن حلفائها، بل أثبتت أنها الطرف الوحيد الذي ما زال يملك شرعية الحديث مع الجميع. وهي حين دافعت عن بوشهر، لم تكن فقط تحمي مصالحها التقنية، بل كانت تؤكد أن ضرب إيران هو تجاوز لخطوط حمراء دولية.
أما من ينتظر أن تردّ موسكو بالصواريخ نيابة عن طهران، فإما أنه يجهل طبيعة العلاقات الدولية، أو يتجاهل حقيقة أن الحليف الصادق ليس من يقاتل عنك، بل من يُبقي لك المجال لتقاتل وتفاوض وتستمر.
روسيا لم تغيّر موقعها.. هي الحليف الذي لا يصرخ ولا يرفع الصوت عاليًا، لكنه لا ينسحب! هي الوسيط الذي لا ينافق، لكنه لا يتورّط بتهوّر! وفي زمن الحروب الكبرى، هذه الصفات لا تُقدّر بثمن.