في إسطنبول، حيث هدأت المدافع موقتًا لصالح الكلمات، سلّم الوفد الروسي إلى نظيره الأوكراني ما يمكن وصفه بأكثر المذكرات السياسية شمولًا منذ اندلاع الحرب: وثيقة متكاملة تقترح تسوية نهائية، لا تكتفي بإعلان وقف النار، بل تذهب أبعد من ذلك نحو إعادة هندسة النظام السياسي والعسكري في أوكرانيا، وفق رؤية روسية خالصة.
الوثيقة، المؤلفة من ثلاثة أقسام، لا تُخفي منطق المنتصر: الاعتراف القانوني بالضمّ، الحياد الكامل لكييف، تفكيك بُنيتها الدفاعية، وتنظيم انتخابات بإشراف دولي. أمّا الثمن الذي تعرضه موسكو في المقابل، فهو وقف العمليات العسكرية، الإفراج عن المعتقلين، وفتح باب العودة إلى العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية، ولو على مراحل.
أدناه، أبرز بنود هذه «المذكرة الروسية» التي قد تشكّل لحظة مفصلية في مسار الحرب، أو ربّما مجرّد فصل آخر في مفاوضات يبدو أنها ما زالت بعيدة من نهايتها.
مصادر ديبلوماسية روسية كشفت النقاب عن مضمون المذكرة التفصيلية التي قدّمها الوفد الروسي إلى الجانب الأوكراني خلال جولة المفاوضات التي انعقدت في إسطنبول، يوم الإثنين الماضي. المذكرة التي يُنظر إليها كـ»ورقة شروط نهائية» تتضمن خريطة طريق شاملة للحل السياسي، تبدأ باعتراف أوكراني بالمكاسب الميدانية الروسية، وتنتهي بتوقيع معاهدة نهائية تُصادق عليها الأمم المتحدة.
في القسم الأول من الوثيقة، تطالب موسكو باعتراف دولي قانوني بانضمام القرم، ودونيتسك، ولوغانسك، وزابوروجيه، وخيرسون إلى الاتحاد الروسي، على أن يقترن هذا الاعتراف بانسحاب القوات الأوكرانية من هذه المناطق بشكل كامل.
كما يشدد النصّ على فرض حياد أوكرانيا التام، بما يعني عدم انضمامها إلى أيّ تكتلات أو تحالفات عسكرية كـ»حلف شمالي الأطلسي» (الناتو)، وحظر إقامة أيّ قواعد أو منشآت عسكرية أجنبية على أراضيها. وهذا يشمل صراحة وقف أي أنشطة عسكرية لدول ثالثة، في إشارة غير مباشرة إلى الوجود الأميركي والبريطاني.
الوثيقة الروسية تطالب أيضًا بتقييد البنية الدفاعية الأوكرانية، من خلال تحديد عدد القوات وحجم العتاد العسكري المسموح به، مع حلّ التشكيلات القومية ضمن القوات المسلحة، وفرض حظر نهائي على تطوير أو استضافة أسلحة دمار شامل.
من بين البنود الأبرز، يبرز مطلب موسكو في منح اللغة الروسية وضعًا رسميًا في أوكرانيا، وضمان الحقوق والحريات الكاملة للناطقين بالروسية، وهي مسألة لطالما استخدمها الكرملين كـ»ورقة سياسية» في مقاربته للصراع.
كما تدعو الوثيقة إلى حظر قانوني على تمجيد النازية والنازية الجديدة، وحلّ الأحزاب القومية، ورفع العقوبات الاقتصادية المتبادلة بين الطرفين، بما يشمل التوقف عن فرض إجراءات تقييدية جديدة.
وفي خطوة تصالحية، يقترح الجانب الروسي حلّ المسائل المرتبطة بلمّ شمل العائلات والنازحين، والتخلّي المتبادل عن المطالبات بالتعويضات، وهو بند قد يثير جدلاً في الداخل الأوكراني، بحيث تطالب كييف بإعادة إعمار المناطق المدمّرة على نفقة موسكو.
أمّا القسم الثاني من المذكرة فيقدّم خيارين لوقف إطلاق النار:
الأول، يتمثل في انسحاب كامل للقوات الأوكرانية من الأراضي التي ضمتها روسيا، مع ابتعادها عن الحدود لمسافة يتم الاتفاق عليها لاحقًا.
الثاني، والذي يُعد أكثر شمولًا، يفرض سلسلة من الإجراءات الأمنية: حظر إعادة الانتشار العسكري، وقف التعبئة، ووقف الدعم العسكري الخارجي، بما في ذلك الأقمار الاصطناعية والمعلومات الاستخباراتية. كما يدعو إلى إلغاء الأحكام العرفية، وتحديد موعد للانتخابات الرئاسية والبرلمانية خلال 100 يوم من تاريخ رفعها.
ويقترح الجانب الروسي إنشاء مركز مراقبة مشترك لوقف النار، مع عفو سياسي متبادل، والإفراج عن المعتقلين، وهو بند يُفهم منه أنّ موسكو تحاول استثمار الورقة الإنسانية لتقليص حدّة الاحتقان.
في القسم الثالث، تعرض الوثيقة ما يشبه الجدول التنفيذي لتطبيق الاتفاق. تبدأ المرحلة الأولى بـ»إعلان هدنة موقتة لمدة 2 إلى 3 أيام»، وذلك لجمع جثث القتلى في «المنطقة الرمادية»، يتبعها تسليم 6000 جثة من الجنود الأوكرانيين من جانب موسكو، وهي خطوة تهدف على ما يبدو لإظهار حسن النية.
ثم يُصار إلى توقيع مذكرة وقف إطلاق نار موقتة لمدة 30 يومًا، تنفّذ خلالها كييف «المقترح الشامل»، يليها تنظيم الانتخابات وتشكيل سلطات جديدة.
في نهاية المطاف، يُفترض أن يتمّ توقيع «معاهدة التسوية النهائية»، والتي ستُعرض على مجلس الأمن الدولي لاعتمادها بقرار ملزم، ثم تُصدّق من الجانبين وتدخل حيز التنفيذ.
ما قدّمه الوفد الروسي في إسطنبول لا يشكّل فقط عرضًا لوقف إطلاق النار، بل مخططًا شاملًا لإعادة تشكيل أوكرانيا سياسيًا وعسكريًا ودستوريًا، بما يتوافق بالكامل مع الرؤية الروسية للصراع. الرد الأوكراني لم يُعلَن رسميًا حتى اللحظة، لكن مصادر ديبلوماسية غربية وصفت الوثيقة بـ»وثيقة الاستسلام»، في حين يُنتظر أن تثير هذه الشروط جدلًا داخليًا حادًا في كييف، لا سيما في ظل استمرار الدعم العسكري الغربي ولو بخجل، والانقسام الحاد حول ملفّ الحياد والانضمام إلى «الناتو».
في الأثناء، يُطرح السؤال الأكبر: هل ما زالت روسيا تراهن على تسوية تفاوضية، أم أنّها تحاول من خلال هذا العرض إحراج الجانب الأوكراني من خلال شرعنة مكاسبها العسكرية؟
الجواب سيحدّده موقف كييف… وكذلك مزاج الحلفاء في واشنطن وبروكسل.