لم تعد الديموقراطية الأوروبية شمسًا لا تُحجب، كما كان يُقال. اليوم، تحت شعارات الحرية وحقوق الإنسان، تُمارس أشكال من الإقصاء والرقابة والقمع السياسي، تارة باسم “محاربة التطرّف”، وطوراً باسم “حماية الاستقرار”. وما يجري في العواصم الأوروبية الكبرى يُعيد إلى الأذهان حديث بلقيس ملكة سبأ في القرآن، والتي قالت: “قَالَتْ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوٓاْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ” (النمل 34).
أوروبا اليوم، بدلاً من أن تُعطي الشعوب ما تريده، تصرّ على تعليمها ما يجب أن تريده… والشواهد على ذلك كثيرة:
في فرنسا، بقيت مرشّحة اليمين مارين لوبن، طوال دوراتها الانتخابية هدفًا لتحالف سياسي وإعلامي واسع، سعى لتقويض فرصها بكل الوسائل، عبر شيطنة برنامجها ووصم جمهورها بالعنصرية والتطرف. صحيح لم تُلغَ الانتخابات، بل تُفرغ من مضمونها عندما يُصبح الخطاب السياسي مُراقبًا أكثر من كونه مُناقشًا.
في ألمانيا، حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) لم يُحظر رسميًا، لكنّ السلطات الألمانية وضعت بعض فروعه تحت المراقبة الأمنية. وبدأت حملات سياسية وإعلامية ممنهجة لتصويره كـ”خطر على الديموقراطية”. وبينما يصعد الحزب في استطلاعات الرأي، يتزايد الضغط لإخراجه من اللعبة عبر الأدوات الإدارية، لا من خلال صناديق الاقتراع، ممّا يعني أنّ معركة لم تُخض في البرلمان، بل في دهاليز الأجهزة والمؤسسات.
أمّا رومانيا، فواجهت في السنوات الأخيرة انتقادات متصاعدة من منظمات دولية بشأن استقلال القضاء ووجود شبهات باستخدام المحاكمات كأدوات لتصفية الخصوم السياسيين. تقارير “فريدوم هاوس” و”هيومن رايتس ووتش” تحدثت عن تراجع مؤشرات الحرية، لكن لم تُسجّل أيّ حال موثّقة عن إلغاء انتخابات وطنية أو سَجن فائز انتخابي بسبب معارضة بروكسل. ما يحدث هناك هو تآكل تدريجي لثقة الناس بالنظام، وليس انقلاباً فجّاً على الديموقراطية.
في سلوفاكيا، نجا رئيس الوزراء روبرت فيكو من محاولة اغتيال في أيار (مايو) العام 2024، في حادث وصفته الأجهزة الأمنية بأنّه “هجوم من متطرّف سياسي” يحمل دوافع شخصية وسياسية معًا. لكنَّ المشهد العام أظهر أنّ التوتر السياسي في شرق أوروبا بات قابلًا للانفجار، خصوصاً في الدول التي تحاول تبنّي مواقف متمايزة عن “التيار الغربي” في ما يخص أوكرانيا والعلاقات مع روسيا.
هنغاريا تُشكّل حالة فريدة في هذا المشهد الأوروبي المستجدّ، إذ يخوض رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان منذ سنوات معركة مفتوحة مع بروكسل حول قضايا السيادة والهوية الثقافية والهجرة. المفوضية الأوروبية استخدمت بالفعل آليات متعدّدة لتجميد مساعدات أوروبية لبودابست، من بينها ما يتعلق بسيادة القانون وحرية القضاء، وتقرير “معهد كاتو” أشار إلى تصعيد متبادل بين الطرفين تجاوز حدود الخلاف السياسي نحو “العقاب المؤسساتي”.
أمّا في إستونيا، فأثارت سياسات التمييز بين المواطنين والناطقين بالروسية جدلًا دوليًا منذ سنوات، إذ لا يُمنح حق التصويت في الانتخابات البرلمانية إلاّ لحاملي الجنسية الإستونية، مما يعني فعليًا أن قرابة 7 بالمئة من السكان البالغين (من أصول روسية) لا يشاركون في العملية السياسية. المفوضية الأوروبية انتقدت الأمر جزئيًا، لكن من دون اتخاذ إجراءات تنفيذية حقيقية من أجل تغييره.
وفي أوكرانيا، أُرجئت الانتخابات الرئاسية بسبب استمرار حالة الحرب، وهو ما يسمح به الدستور الأوكراني في ظروف مماثلة. لكن التأجيل أثار جدلًا داخليًا واسعًا، خصوصًا أنّ الحرب طالت، والديموقراطية لم تُمارس منذ سنوات، وسط تزايد الاتهامات بتقييد الإعلام وقمع بعض المعارضين السياسيين بذريعة أمنية. لا توجد أرقام موثّقة عن هذا الأمر، لكن بعض الترجيحات تشير إلى أنّ أكثر من نصف الأوكرانيين يطالبون بانتخابات مبكرة، والدعوات لاستئناف المسار الانتخابي الديموقراطي ترتفع.
في النهاية، لا يُمكن القول إنّ أوروبا تخلت عن الديموقراطية لصالح الدكتاتورية. لكن الأكيد أنّ ديموقراطيتها تعاني اليوم من “ازدواجية صارخة”، فهي تسمح بالاختلاف شرط ألاّ يلامس الخطوط المرسومة مسبقاً. فتقبل المعارضة وتتقبل وجودها، ما دامت لا تُهدّد المنظومة المكرّسة منذ عقود.
أوروبا التي تطالب العالم باحترام إرادة الشعوب، باتت تخشى من أن تُترجم هذه الإرادة إلى نتائج لا تُعجبها… وهذا أمر مستجدّ في القارة التي تُعدّ “معقل” حقوق الإنسان في العالم، ولا يمكن القفز فوقه.
الديموقراطية اليوم في القارة العجوز ليست قيد الإلغاء، لكنّها بلا شك باتت قيد التحكّم. وما لم يتم الاعتراف بهذه الأزمة، فإن أوروبا لن تحفر قبرها بيدها كما قال جون لوك، بل ستُقزّم دورها في العالم بصمت، وهي تزيّن القيود بشعارات الحرية.