منذ مطلع الألفية الثالثة، لم تعد الصّين تكتفي بلعب دور “المصنع العالمي”، بل شرعت في إعادة تشكيل النظام الدولي عبر أدوات اقتصادية وديبلوماسية متشابكة. فقد تجاوز حجم التجارة بين الصين وآسيا الوسطى في عام 2024 حاجز 94.8 مليار دولار، بزيادة قدرها 5.4 مليارات عن العام الذي سبقه. وتصدّرت كازاخستان قائمة الشركاء الإقليميين للصين بحجم تبادل بلغ 43.8 مليار دولار، تليها قرغيزستان بـ22.7 مليار، ثم أوزبكستان بـ13.7 مليار.
النفوذ الصيني في آسيا الوسطى لا يقتصر على التجارة، بل يمتدّ إلى البنية التحتية عبر مشاريع السكك الحديدية والطاقة، كما يتّسع إلى برامج التبادل الثقافي والتعليمي. لكن التمدّد الصيني هذا لا يخلو من التحفّظات، خصوصًا مع تصاعد الخطابات القومية في كازاخستان وقرغيزستان، وتنامي الحذر من “التوغل الاقتصادي” الذي قد يجرّ معه تبعية سياسية.
في أفغانستان، وبعد انسحاب الولايات المتحدة عام 2021، فتحت الصين قنوات تواصل مع حركة طالبان، مركّزة على تأمين حدودها واستثمار المعادن النادرة. في عام 2024، سجّلت التجارة الثنائية 12.4 مليار دولار، بينها 1.8 مليار صادرات أفغانية و10.6 مليارات واردات. بكين، وإن لم تعترف رسميًا بالحكومة القائمة هناك، فإنها تخوض ديبلوماسية براغماتية عنوانها الأمن والاستثمار.
أما في روسيا، فالعلاقة تستند اليوم إلى تحالف مصلحي. بلغ حجم التجارة الثنائية 244.81 مليار دولار في 2024، بزيادة طفيفة بلغت 1.9% عن 2023، لكن الفائض التجاري لموسكو تقلّص بنسبة 23.8% نتيجة تراجع صادرات الطاقة. التوازن هنا هشّ: الصين تحتاج إلى المواد الخام، وروسيا تحتاج إلى السوق، لكن كل طرف يحتفظ بحذره الاستراتيجي.
مع الاتحاد الأوروبي، لا تزال العلاقة تتأرجح بين الشراكة والريبة. بلغت التجارة الثنائية 731 مليار يورو في 2024، مع فائض لصالح الصين بقيمة 304.5 مليارات يورو. الاتحاد الأوروبي، رغم استمراره كشريك تجاري أول، يزداد توجّسًا من الخلل التجاري ومن محاولات بكين توسيع نفوذها داخل أوروبا الشرقية والبلقان.
في المقابل، لا يبدو أنّ التوتر مع واشنطن في طريقه إلى الحلحلة. رغم هدنة جمركية موقتة خفّضت الرسوم على الواردات من الصين من 145% إلى 30% لمدّة 90 يومًا، ارتفعت الحجوزات البحرية بنسبة 275% في نهاية 2024. هذه الطفرة تعكس هشاشة العلاقات بين الجانبين، في ظلّ سباق تقني محموم على أشباه الموصلات والتفوّق الصناعي.
في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تكثّف الصين حضورها عبر أدوات اقتصادية وديبلوماسية، بعيدًا من الاستقطابات السياسية المباشرة. في الجزائر، على سبيل المثال، بلغ حجم التبادل التجاري مع بكين 9.1 مليار دولار عام 2023، ما يجعل الصين الشريك التجاري الأول للجزائر، متقدّمة على فرنسا وإيطاليا. وفي الخليج، تمضي الصين في تعزيز مشاريع البنية التحتية والطاقة ضمن إطار مبادرة “الحزام والطريق”.
اللافت في هذا الحضور الصيني أنه لا يُقاس بعدد القواعد العسكرية، بل بعدد المرافئ والممرّات وسلاسل الإمداد. فمبادرة “الحزام والطريق” لا تزال حجر الزاوية في استراتيجية الصين العالمية، وخصوصًا في آسيا الوسطى، حيث ترى بكين أن المستقبل يُبنى بالحديد والإسمنت، لا بالدبابات والمناورات. وبينما تنشغل روسيا بأوكرانيا، وتعيد الولايات المتحدة تركيزها نحو المحيطين الهندي والهادئ، تتحرّك الصين بثبات لملء الفجوات، مدفوعة بعقيدة مفادها أن من يربط الأسواق، يربح النفوذ.