في ظلّ التصاعد المتواصل للحديث عن عقد قمّة سلام مرتقبة في إسطنبول بين روسيا وأوكرانيا، برعاية تركية مع احتمالية مشاركة أميركية، تطفو على السطح تساؤلات مصيرية حول إمكانية حضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً، خصوصا مع التلميحات المتكرّرة حول احتمال مشاركة الرئيس الأميركي دونالد ترامب كطرفٍ فاعل في هذه المفاوضات.
هذه القمّة المحتملة تأتي في وقت تشهد فيه الحرب الروسية – الأوكرانية تحوّلات دراماتيكية غير مسبوقة منذ منتصف العام 2024، بحيث تواصل القوّات الروسية تقدّمها العسكري في المناطق الشرقية من أوكرانيا، بينما تخسر كييف مواقع استراتيجية مهمّة مثل مدينة كورسك، في مشهد يعكس اختلالا واضحا في موازين القوى العسكرية بين الطرفين.
وفي خضم هذه التطورات، يبرز سؤال محوري حول مدى واقعية تحقيق تسوية سياسية في ظل هذا التفاوت العسكري الصارخ، وما إذا كانت العوامل الجيوسياسية الحالية تسمح بتحقيق سلام دائم أو أننا أمام مجرّد “محطة موقّتة” في صراع طويل الأمد.
من ناحية، يبدو الموقف الأوكراني تراجع بشكل ملحوظ مع تراجع الدعم الغربي، خصوصا بعد انسحاب الولايات المتحدة من خطّ المواجهة المباشر، بينما تزداد ثقة الجانب الروسي بقدرته على تحقيق نصر عسكري حاسم، أو على الأقل فرض تسوية سياسية تكرّس سيطرته على الأراضي المكتسبة.
وإذا ما تأكد حضور دونالد ترامب في هذه القمّة، فقد يشكّل ذلك عاملاً حاسماً في دفع بوتين للمشاركة، في ضوء العلاقة الشخصية التي جمعت الرجلين سابقاً، والمواقف الإيجابية التي أبداها ترامب تجاه سياسات بوتين، ناهيك عن انتقادات ترامب المتكررة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بسبب رفضه المبكر لإنهاء الصراع.
قد يحمل حضور ترامب دلالات سياسية بالغة الأهمية، إذ يشير إلى أنّ واشنطن لن تعترض على اتفاقية تفرض على أوكرانيا التنازل عن أجزاء من أراضيها لصالح روسيا، خصوصا إذا قدمت هذه التنازلات في إطار ما يسمى بـ”الضمانات الأمنية”. كما لا يمكن إغفال أدوات الضغط الأميركية المتعدّدة التي يمكن أن تلعب دوراً حاسماُ في رسم هذه المعادلة، بدءا بالمطالبة بإجراء انتخابات رئاسية جديدة في أوكرانيا -وهو السيناريو الذي يثير قلق زيلينسكي بشكل واضح برغم تمسّكه بالسلطة عبر دعم برلماني وأوروبي- وصولا إلى إمكانية وقف الدعم العسكري واللوجستي الأميركي بشكل كامل، وهو ما قد يحوّل الجيش الأوكراني إلى “فريسة” سهلة أمام الآلة العسكرية الروسية الجبارة.
هذه العوامل مجتمعة، تضع أوكرانيا في موقف بالغ الضعف، خصوصا في ظل التقدّم العسكري الروسي المستمر على جميع الجبهات. إذ أصبح من الواضح أن القوات الأوكرانية تعاني من إرهاق شديد وتتكبّد خسائر فادحة، بحيث تكشف المطالبات المتكررة من كييف بضرورة إعلان هدنة لمدة شهر كامل، عن مدى الهشاشة التي يعاني منها الجيش الأوكراني، ممّا يثير تساؤلات جدية حول إمكانية انهياره الكامل في المدى المنظور. وفي حال تحقّق هذا السيناريو الكارثي، فإن طبيعة المفاوضات بين الطرفين ستتحوّل جذرياً من محادثات تهدف إلى توقيع اتفاق سلام إلى إجراءات تعكس اعترافاً أوكرانياً صريحاً بالهزيمة.
من جهة أخرى، فإن حضور بوتين في قمة دولية ضيوفها شخصيات بارزة مثل دونالد ترامب والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، سيشكّل انتصاراً دعائياً كبيراً لموسكو، يعزّز من صورتها كقوة عظمى قادرة على فرض أجندتها حتى على ألدّ أعدائها.
هذا المشهد الديبلوماسي سيكون ذا أبعاد رمزية مهمة، على الأخصّ بعد الاحتفالات الضخمة التي نظمتها روسيا أخيراً بمناسبة “عيد النصر” وتضمّنت استعراضاً مهيباً للقوّة العسكرية بحضور حلفاء استراتيجيين مثل الصين ومصر وكوريا الشمالية وغيرها من الدول. كما أنّ توقيع اتفاقية سلام في ظل الهيمنة العسكرية الروسية سيسهم في ترسيخ سردية “الانتصار الاستراتيجي” في الخطاب السياسي الروسي الداخلي.
لكن رغم هذه المعطيات الإيجابية بالنسبة لموسكو، تبقى هناك عوامل عدّة، قد تدفع بوتين إلى التريث قبل الإقدام على خطوة المشاركة الشخصية في القمة، يأتي في مقدمتها إشكالية شرعية الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، التي تشكّل عائقا تفاوضياً كبيراً، خصوصا بعد انتهاء ولايته الدستورية في أيار/ مايو 2024. ومن المعروف أنّ موسكو تصرّ على اعتبار زيلينسكي “غير شرعي” في موقفها الرسمي، كما أنّ التعديل الدستوري الأوكراني الذي يحظر أيّ مفاوضات مباشرة مع روسيا يزيد من تعقيد المشهد التفاوضي. إضافة إلى ذلك، فإنّ الأعراف الدبلوماسية تقتضي عادة إجراء تحضيرات مسبقة عبر وفود فنية وخبراء قبل عقد قمم على مستوى القادة.
قد تتحفظ موسكو على الدخول في مفاوضات علنية عالية المستوى دون ضمانات مكتوبة مسبقة، بخاصة إذا فشلت القمة، مما سيعزز الرواية الأوكرانية حول ما تصفه بـ”التعنت” الروسي. كما أنّ أيّ تنازلات علنية من جانب زيلينسكي قد تثير حفيظة النخب القومية في روسيا إذا رأت أنّ الاتفاق النهائي لا يعكس التفوق العسكري الروسي الواضح على الأرض.
أما على الصعيد التركي، فإن دور أنقرة كوسيط يبقى هشا رغم المحاولات الحثيثة للرئيس أردوغان لاستثمار علاقاته المتشعبة مع موسكو وكييف وواشنطن لتعزيز مكانة بلاده كوسيط إقليمي مؤثر. هذه الهشاشة تتجلى بوضوح عند استحضار فشل المفاوضات السابقة التي استضافتها إسطنبول في آذار/ مارس 2022، حيث لم تنجح المحادثات في تحقيق أيّ تقدم ملموس برغم المناخات الإيجابية التي رافقت المفاوضات في البداية.
وفي المقابل، يبدو الموقف الأوروبي باهتا بشكل لافت، حيث يعاني الاتحاد الأوروبي من انقسامات داخلية حادّة وأزمات طاقة متلاحقة، مما حد بشكل كبير من قدرته على تقديم دعم حاسم لأوكرانيا. اقتصر الدور الأوروبي في الفترة الأخيرة على تحريض زيلينسكي على رفض أيّ تسوية سياسية من دون الرجوع إلى العواصم الأوروبية الرئيسية، مثل برلين وباريس ولندن، وذلك في مؤشر واضح على فقدان الاتحاد الأوروبي لدوره كفاعل مستقل في هذه الأزمة.
في حال فشلت القمة المرتقبة بتحقيق أيّ تقدم ملموس، فإنّ السيناريو الأسوأ يصبح احتمالا مرجحا، حيث قد تشهد الجبهات تصعيدا عسكريا روسيا غير مسبوق، قد يستهدف مدنا أوكرانية كبرى مثل أوديسا وخاركيف. كما أنّ استمرار الوضع الراهن ربّما يؤدي إلى انهيار أوكرانيا اقتصاديا وسياسيا، تزامنا مع استمرار تراجع الدعم الغربي.
الأخطر من ذلك كلّه، أنّ امتداد النزاع إلى دول مجاورة مثل مولدوفا وجورجيا لم يعد احتمالا نظريا، بل أصبح سيناريو واقعيا قد يفتح الباب أمام مواجهات إقليمية أوسع نطاقاً، وهو ما يضع العالم أمام تحدّيات جيوسياسية غير مسبوقة في القرن الحادي والعشرين.