في السنوات الأخيرة، شهدت أوروبا تصاعدًا ملحوظًا في الحركات اليمينية المتطرفة، والتي تتبنى بعض الأفكار القومية المتشددة التي كانت سائدة خلال الحقبة النازية. هذه الظاهرة أثارت قلقًا واسعًا، خاصة في دول مثل ألمانيا وفرنسا وبولندا؛ حيث ظهرت جماعات سياسية واجتماعية تتبنّى خطابًا متطرفًا يعكس بعض جوانب الفكر النازي. فما أسباب هذه الصحوة؟ ولماذا يبدو أن بعض الحكومات الأوروبية تتسامح معها؟
ألمانيا: بين الماضي والحاضر
رغم أن ألمانيا كانت من أكثر الدول التي عملت على محاربة الفكر النازي بعد الحرب العالمية الثانية، فإن السنوات الأخيرة شهدت تصاعدًا في نشاط الجماعات اليمينية المتطرفة. ووفقًا لتقرير صادر عن البرلمان الأوروبي، فإن الجرائم المرتبطة باليمين المتطرف ارتفعت بنسبة 10% في عام 2023 مقارنة بالعام السابق له، كما أن عدد الهجمات العنصرية ارتفع بنسبة 15% خلال العام نفسه.
صعود النازية في ألمانيا مردّه إلى 3 أسباب هي: الأزمة الاقتصادية، وتزايد البطالة، والتضخّم.. هذه الأسباب دفعت بعض الفئات إلى البحث عن تفسيرات قومية متشددة. يضاف إلى ذلك الهجرة التي أدت مع الوقت إلى تصاعد الخطاب المناهض للمهاجرين، بحيث تستغل تلك الجماعات النازية المتطرفة المخاوف الشعبية من أجل تبرير سياساتها العنصرية ورفضها لكل أجنبيّ.
أما السبب المباشر لظهور تلك الحركات فهو “التسامح السياسي”، خصوصًا مع تبنّي بعض الأحزاب اليمينية المعتدلة خطابات أكثر تشددًا في الداخل الألماني؛ طمعًا منها بكسب المزيد من الأصوات الانتخابية عشية الأزمتين الأوليين.
فرنسا: القومية المتطرفة في قلب السياسة
في فرنسا، تصاعدت شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة، مثل “حزب التجمع الوطني”، الذي يتبنى سياسات قومية صارمة. كما شهدت البلاد زيادة في الاعتداءات العنصرية ضد الأقليات، خصوصًا ضد المسلمين واليهود على السواء.
أسباب هذا التطرّف ليست بعيدة عن نظيراتها في ألمانيا.. فإنّ الهجرة، كما الهجمات الإرهابية التي شهدتها فرنسا في السنوات العشر المنصرمة، عزّزت مخاوف الفرنسيين من الأجانب، ما دفع بعض الفئات إلى دعم السياسات والبرامج الأكثر تطرفًا. ناهيك عن الإعلام المركز والدعاية السياسية، إذ إن بعض وسائل الإعلام وجدت مصلحتها في الترويج لخطاب قومي متطرف، ما أسهم عن قصد أو غير قصد في نشر الأفكار العنصرية داخل المجتمع الفرنسي.
لكنّ الأهداف في الداخل وفي الخارج كانت تتلاقى دومًا مع بعضها، وضعف الثقة في الأحزاب التقليدية كان له دور محوري في تغذية هذه الحركات؛ لأنّ فشل الحكومات الفرنسية المتعاقبة (من بينها حكومات الرئيس الفرنسي الحالي إمانويل ماكرون) في معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية دفع بالناخبين نحو الأحزاب المتطرفة.
بولندا: القومية المحافظة والتاريخ المعقد
بولندا كذلك، لم تسلم من تصاعد الحركات القومية المتشددة، خصوصًا أنّها على تماس مع أوكرانيا.. حركة المرتزقة والمقاتلين الأجانب، وكذلك الأسلحة، كانت كلّها تمر عبر هذه الدولة؛ ولهذا شهدت البلاد مظاهرات ضخمة لجماعات يمينية متطرفة ترفع شعارات قومية متشددة، وداعمة للحرب في أوكرانيا.
التوترات بين بولندا والاتحاد الأوروبي عززت من هذا التوجّه، فبعض الأحزاب البولندية كانت ترى أنّ السياسات الأوروبية تهدّد الهوية الوطنية البولندية، كما كانت تشعر بأنّ الحرب ضد روسيا بواسطة النازيين هناك ربّما تساعد على المزيد من التحرر من السياسات الأوروبية.
التاريخ البولندي المعقد، هو الآخر كان له دور إضافي، إذ عانت بولندا في العقود الماضية من الاحتلال النازي الذي واجهه الاتحاد السوفياتي في حينه، وهو ما جعل تاريخ البلاد مسألة حاضرة في نفوس البولنديين، فتبنت بعض الفئات خطابات قومية متشددة من أجل استعادة “أمجاد الماضي”.
الحكومات البولندية لم تكن بعيدة عن ذلك؛ فبعض المسؤولين الحكوميين كانوا يظهرون تسامحًا مع هذه الجماعات، ويعتبرون أنّها جزء من “الهوية الوطنية”.
لكن السؤال الذي يُطرح: لماذا تتسامح بعض الحكومات الأوروبية مع هذه الحركات؟
على الرغم من أنّ الحكومات الأوروبية تعلن رسميًّا رفضها للنازية، إلا أنّ ثمة عوامل تجعلها تتسامح مع بعض الجماعات المتطرفة:
– الاعتبارات الانتخابية: بعض الأحزاب السياسية تستغل هذه الحركات لكسب أصوات الناخبين.
– الضغوط الاقتصادية: الحكومات تتجنب مواجهة هذه الجماعات خوفًا من إثارة اضطرابات اجتماعية.
– التوازن السياسي: بعض الحكومات ترى أن مواجهة هذه الجماعات قد يؤدي إلى تعزيز نفوذ الأحزاب اليسارية، ما يدفعها إلى تبني موقف أكثر حيادية.
ومنذ بداية الحرب الروسية – الأوكرانية، أعلنت روسيا أن تدخلها العسكري في أوكرانيا يهدف إلى “اجتثاث النازية”، بحيث اتهمت موسكو الحكومة الأوكرانية بدعم جماعات يمينية متطرفة.
ووفقًا لتقرير نشرته “الجزيرة”، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال الحرب، وصف الحكومة الأوكرانية بأنّها “دكتاتورية نازية”، مشيرًا إلى أنّ الغرب يدعم هذه الجماعات لتحقيق أهداف سياسية ضد روسيا. خصوصًا أنّ الحكومات الأوروبية على الرغم من إعلانها عن رفض الأطروحات النازية ومحاربتها، كانت في كل مرة تظهر تساهلًا مع تلك الحركات، بل وتدعمها بالأسلحة والأموال، مثل “كتيبة آزوف”، تلك الوحدة العسكرية الأوكرانية التي كانت قد ضمّت عناصر يمينية متطرفة، وعديدًا من المقاتلين المرتزقة القادمين من الدول الأوروبية، ناهيك عن الحركات القومية المتشددة التي تتبنى خطابات قومية متطرفة ضد الروس، والسكان الأوكران الناطقين باللغة الروسية.
وفقًا لتقرير نشرته صحيفة “دير شبيغل” الألمانية بعد أشهر من بداية الحرب في أوكرانيا، فإنّ بعض الجماعات اليمينية المتطرفة في أوكرانيا، تلقت دعمًا غير مباشر من الحكومات الغربية، بحيث تم تزويدها بالأسلحة والتدريب العسكري. هذا الدعم يثير تساؤلات حول مدى تأثير هذه الجماعات على السياسة الأوكرانية، وما إن كانت تستخدم كأداة في الصراع الجيوسياسي بين روسيا والغرب.
تلك “الصحوة” النازية في أوروبا، ليست مجرد ظاهرة اجتماعية، بل هي انعكاس لأزمات سياسية واقتصادية عميقة؛ فبينما تحاول الحكومات الأوروبية الحفاظ على توازن سياسي، فإنّ التسامح مع هذه الحركات بدأ يؤدي إلى تداعيات خطيرة على الديمقراطية والاستقرار الاجتماعي.
وفي الوقت نفسه، فإنّ الحرب الروسية- الأوكرانية كشفت عن وجود جماعات يمينية متطرفة في أوكرانيا نفسها، كان الغرب يرفض الاعتراف بوجودها، وهو ما أثار منذ بداية الحرب تساؤلات حول دور الغرب في دعم هذه الجماعات، مع رفضه الإقرار بتأثيرها على مستقبل أوروبا، وعلى اتحادها القائم على التلاحم والديمقراطية.