لم يكن ضيف قصر الإليزيه الفرنسي الآتي من منطقة الشرق الأوسط الأسبوع الماضي، عادياً. هناك، في مقر رئيس الدولة استقبل إيمانويل ماكرون رئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني، الذي زار “عاصمة الأزياء” آتياً من المدينة التركية الساحلية أنطاليا.
رئاسة الإقليم كشفت أنّ عناوين اللقاء كانت كثيرة ومتنوّعة، وأبرزها العلاقات وسبل تعزيز التعاون المشترك، بينما أعلن ماكرون أمام وسائل إعلامية أجنبية عند عتبة القصر التاريخي، أنّ ثمة “قضايا كثيرة لنبحثها. سعيد بلقاء صديقي نيجيرفان مجدّداً”. ثم بعد اللقاء أعلن الزعيمان تبادل وجهات النظر حول جهودهما في مكافحة الإرهاب وتطورات المنطقة المعقّدة.
وتأتي هذه الزيارة في أعقاب مشاركة رئيس الإقليم في “منتدى أنطاليا الدبلوماسي” بنسخته الرابعة، حيث عقد بارزاني سلسلة من الاجتماعات مع عدد من الرؤساء والقادة والوزراء، الذين تجمعهم تناقضات سياسية، مثل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. أما علاقة إقليم كردستان بفرنسا، فيمكن وصفها بأنّها متعدّدة الجوانب، وتشمل المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والأمنية، وكذلك الإنسانية. وقد تعزّزت تلك العلاقة بين الطرفين على مرّ السنين، وكانت على الدوام مدعومة بـ: 1 منافع متبادلة. 2 أولويات مشتركة.
لطالما لعبت فرنسا دوراً فاعلاً في الحرب ضدّ تنظيم “داعش”، ولا سيّما في العراق وسوريا، حيث مارس إقليم كردستان دوراً محورياً في تلك الحرب، نظراً لقربه من المناطق التي يسيطر عليها التنظيم. كما شاركت فرنسا في “التحالف الدولي” الذي قادته الولايات المتحدة وساعدت القوات الكردية (البيشمركة) في هزيمة “داعش”.
ووفقاً لوزارة القوات المسلّحة الفرنسية، فإنّ فرنسا قد نشرت عسكريين خلال الحرب من أجل دعم القوات الكردية. ونفذت غارات جوّية ضدّ “داعش”، كما درّبت أكثر من 5 آلاف مقاتل من “البيشمركة” في إطار جهود التحالف، مقدّمة مساعدات إنسانية للنازحين في الإقليم. وقد لعبت قوات “البيشمركة”، دوراً حاسماً، بدعم من المساعدة العسكرية الفرنسية، في تحرير مدن رئيسية، بما فيها الموصل التي حُرّرت من سيطرة “داعش” في العام 2017… ما يعني أنّ التعاون بين الكرد وباريس كان أساسياً ويُبنى عليه لضمان استقرار المنطقة ومنع انتشار التطرّف في مجمل العراق.
هذا على المستوى العسكري والأمني. أمّا على المستوى الاقتصادي وتحديداً في مجال الطاقة، فيُعد هذا القطاع أحد المجالات الرئيسية التي تحظى باهتمام فرنسا في كردستان. كما هو معروف، فإنّ الإقليم يتمتع بثروة طبيعية هائلة، بما في ذلك النفط والغاز، ما يجذب المستثمرين الأجانب، وفرنسا كانت من بين المهتمين، إذ استثمرت من خلال شركات مثل “توتال إنرجيز” بشكل كبير داخل الإقليم. تعمل “توتال” هناك منذ العام 2009، بموجب عقود متعدّدة من أجل الاستكشاف والتطوير. وتوصّلت “توتال إنرجيز” في العام 2020 إلى اتفاقية مع الإقليم قيمتها 27 مليار دولار، من أجل تطوير حقول النفط والغاز، ويُعدّ هذا الاستثمار أحد أكبر الاستثمارات الأجنبية في كلّ المنطقة، ما يعكس أهمّية كردستان الاقتصادية بالنسبة إلى فرنسا. ووفقاً لوزارة الموارد الطبيعية في حكومة كردستان، فإنّ إنتاج النفط يبلغ أكثر من 450 ألف برميل يوميّاً، تتولّى شركات فرنسية مثل “توتال إنرجيز” إدارة جزء منه.
على المستوى الدبلوماسيّ، تلعب فرنسا دوراً في تثبيت “وضعية” إقليم كردستان داخل العراق. فكانت من بين الداعمين لحق حكومة الإقليم في الحكم الذاتي في إطار “عراق اتحادي”. كما تتخذ باريس موقفاً دبلوماسياً مشرّفاً في الدفاع عن حقوق الكرد، بما في ذلك الحكم السياسي والاستقرار الإقليمي، وقد حافظ ماكرون على مدى العقد الماضي على علاقات دبلوماسية وثيقة مع قيادة حكومة الإقليم.
في إطار مواجهة النزوح خلال الحرب، قدّمت باريس الدعم للكرد من خلال المساعدات الإنسانية، وكذلك المساعدات المالية بملايين اليوروات من أجل الرعاية الصحية والتعليم وتطوير البنى التحتية، ناهيك عن نشاط فرنسا في دعم برامج التبادل الثقافي وتقديم المنح الدراسية للطلاب الكرد والترويج للتراث الكردي من خلال الفعاليات الثقافية.
في المبدأ، فإنّ اهتمام فرنسا بكردستان ينبع من اعتبارات جيوسياسية أوسع نطاقاً في الشرق الأوسط، إذ يُنظر إلى الإقليم على أنّه “كيان مستقرّ”، خصوصاً “كيان غير طائفي وعلماني”، في منطقة غارقة بالصراعات الطائفية والخلافات الدينية. ولهذا تُقدّر فرنسا دور كردستان كـ “قوة موازنة” لنفوذ دول إقليمية أخرى مثل إيران وتركيا، اللتين تربطهما علاقات معقدة مع الكرد في المنطقة.
وعليه، فإنّ استقرار المنطقة بالنسبة إلى باريس، هو أمر بالغ الأهمّية من أجل الحفاظ على “توازن القوى” في سائر العراق، وكذلك سوريا التي خرجت أخيراً من دوامة العنف. وهذا ما يتطلّع إليه ماكرون ويسعى إلى نشره على أوسع نطاق في الشرق الأوسط… وينطلق إليه من إقليم كردستان.