تواجه تركيا تحديات جمّة تراوح بين الانقسام الاجتماعي والسياسي العميق، الذي يزداد تعقيداً تحت تأثير السياسات التي يتبناها “حزب العدالة والتنمية” الحاكم مع بعض الأحزاب التركية الصغيرة التي تدور في فلكه.
ففي الوقت الذي تتسم فيه البلاد بتنوع ثقافي وديني، يسعى الحزب بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، إلى تعزيز سلطته من خلال توجيه القيم والأيديولوجيات التي تركّز على الإسلام السياسي والقومية التركية المتطرفة أحياناً. هذا التوجه بدأ بإثارة الكثير من الجدل على الصعيدين الداخلي والخارجي، نظراً لما يحمله من تهديدات مستقبلية للاستقرار الاجتماعي والسياسي في تركيا. أمّا الجديد في تلك السياسات، فهو الاهتمام الخاص الذي بدأت السلطات التركية توليه للتربية والتعليم، خصوصاً في ما يتعلق بالشباب التركي.
وفي خطوة مثيرة للجدل، تم توقيع اتفاقية مطلع العام الحالي (في 31 كانون الأول – ديسمبر 2024) بين وزارة التعليم الوطني التركية (MNE) ومنظمة “Hearth of Idealists”، المعروفة أيضاً باللغة التركية باسم “Ulku Ocaklari”، بوصفها “أداة جديدة” لتوجيه التعليم التركي بما يتماشى مع هذه السياسات والأيديولوجيات التي لا تحظى غالباً بقبول، سواء في الداخل التركي أو على الساحة الدولية. لأنّها تعزّز الانقسامات الداخلية وتفتح الباب أمام انتشار التطرف والإرهاب، وهو ما قد يهدّد استقرار البلاد على المدى الطويل.
وبموجب هذه الاتفاقية، مُنحت “Hearth of Idealists” الحق في تنظيم دورات للتوجيه المهني والتقني داخل المؤسسات التعليمية في تركيا. كما أصدرت وزارة التعليم أوامر لجميع المقاطعات التركية لتعزيز أنشطتها في المدارس الثانوية من خلال الانخراط في هذه الدورات (قرابة 1032 مركزاً تعليمياً في مختلف أنحاء تركيا، يستفيد منها 11 مليون طالب سنوياً).
ويبدو أنّ الهدف الحقيقي وراء هذه المبادرة، ليس فقط تقديم تعليم مهني وتقني، بل هو تلقين الشباب التركي مناهج تركز على الإسلام وعلى القومية التركية بأسلوب يوصف بالتطرّف. ولهذا، أثارت المبادرة انتقادات حادة من المعارضة التركية، حيث اعتبر زعيم “حزب الشعب الجمهوري” أوزغور أوزيل، أنّ تدخل “حزب الحركة الوطنية” في العملية التعليمية يُعدّ أمراً غير دستوريّ.
ووفقًا للقانون التركي، لا يحق لأيّ حزب سياسي التأثير على العملية التعليمية في البلاد، وهو ما يعتبره أوزيل انتهاكاً لأسس الديمقراطية التركية، التي أرساها مصطفى كمال أتاتورك (مؤسس الجمهورية التركية).
ويعتقد معارضو الحكومة أنّ هذه الخطوة تشكل تهديداً، ليس فقط للهوية العلمانية لتركيا التي أرساها مصطفى كمال أتاتورك، بل أيضاً لاستقرار البلاد السياسي والاجتماعي. لكن يبدو أنّ الحكومة التركية تستخدم قدراتها السياسية والدينية لفرض رؤية جديدة من خلال التعليم، وهو ما يثير مخاوف من الانقسام الاجتماعي الذي يمكن أن يؤدي إلى تطور الإرهاب والتطرف في المجتمع.
ومنذ أن تولّى “حزب العدالة والتنمية” زمام السلطة في تركيا، مرّت البلاد بمرحلة من التغيرات الكبيرة التي أثرت إيجاباً على مجالات عدّة، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية. لكن برغم ذاك التقدم، فإنّ سياسات الحزب التعليمية كانت من أكثر المجالات التي شهدت تراجعاً في نوعيتها، لا سيما مع تنامي “الأسلمة” المفرطة وتوسعها في المناهج الدراسية والمؤسسات التعليمية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل طاول تأثير سياسات الهجرة الجماعية للشباب التركي إلى أوروبا والولايات المتحدة، هرباً من بيئة قمعية وأيديولوجية لا تتناسب مع أفكارهم، ما شكّل تحدياً كبيراً للعلاقات التركية مع دول الغرب.
ومن الواضح أنّ تغيير المنظومة التعليمية في البلاد، شهد تدخلات متزايدة من الحكومة في اختيار المناهج الدراسية، وتوجيه الطلاب نحو تلك الأيديولوجيات. بينما الهدف من خلفها ذلك كان: تأهيل جيل جديد يُعرف بتوجهاته الدينية المتشددة، ويشجع على إبعاد الطلاب عن القيم الديمقراطية الحديثة.
لم تكتفِ الحكومة بتعديل المناهج فقط، بل بدأت أيضاً في التدخل في الجامعات، ما أدى إلى تراجع المستوى الأكاديمي بشكل ملحوظ.
وفي هذا السياق، تحدّثت تقارير غربية عدّة عن أنّ نسبة الأساتذة الذين لا يتوافقون مع توجّهات الحكومة قد انخفضت بشكل حاد، بينما تمّ تعزيز مكانة الأكاديميين المؤيدين لتوجهات “حزب العدالة والتنمية”.
وتحاول أنقرة إظهار أن تلك السياسات هي من مطالب الشعب التركي. إذ كُشف النقاب قبل مدة عن دراسة أعدّها مركز الدراسات السياسية والاقتصادية في إسطنبول (SETA) وتقول إن أكثر من 40 بالمئة من الطلاب في جامعات تركيا يعتقدون أنّ التعليم الديني يجب أن يكون له دور أكبر في النظام التعليمي! لكن الواقع يقول بخلاف ذلك إنّ العديد من الطلاب المتفوّقين قد هاجروا إلى الدول الأوروبية والولايات المتحدة بحثًا عن بيئة أكاديمية أكثر تحرراً وتعدّدية، في ظاهرة يمكن تسميتها بـ”هجرة العقول”.
تكشف المنظمة الدولية للهجرة (IOM) أنّ ما يزيد على مليون شاب تركي هاجروا إلى الغرب. وعلى الرغم من أنّ بعضهم هاجر لأسباب اقتصادية، فإنّ معظم هؤلاء أعربوا عن رفضهم للممارسات القمعية التي فرضتها الحكومة، خصوصاً في مجال “الحرية الشخصية” و”الحقوق المدنية”.
وفقًا لدراسة أجرتها جامعة “أكسفورد”، فإنّ نحو 60 بالمئة من المهاجرين الأتراك إلى الدول الغربية اختاروا مغادرة البلاد بسبب ما وصفوه بـ”الأسلمة المفرطة” في تركيا، وهو ما يعني تحوّل البلاد إلى بيئة دينية تمارس فيها السلطة نوعاً من الهيمنة الدينية على الحياة اليومية.
ووفقًا لبيانات منظمة التعليم الدولية (OECD)، تُعتبر تركيا من الدول التي شهدت أكبر قفزات في الإنفاق على التعليم في العقد الماضي، لكن هذه الزيادة غالباً ما ارتبطت بتوجيهات سياسية تهدف إلى تعزيز أفكار محددة ومعدة مسبقاً.
ولم تقتصر أضرار سياسة “حزب العدالة والتنمية” على التعليم والهجرة فقط، بل تعدت ذلك إلى تهديدات أمنية قد تكون لها تداعيات خطيرة على أمن أوروبا. فإحدى العواقب السلبية التي قد تترتب على هذا الانفتاح الذي يعيشه الشباب التركي على المنظمات المتطرفة في الداخل هي الانتقال نحو دول أوروبية لتنفيذ أعمال إرهابية، أو الانضمام إلى الخلايا الإرهابية في بعض المناطق. ومن هنا يبرز خطر توسّع التنظيمات الإرهابية مثل تنظيمي “داعش” و”القاعدة”.
كما تشير التقارير الأمنية الأوروبية إلى أنّ تركيا أصبحت بمنزلة “بوابة” لتوسيع عمليات هذه التنظيمات في الشرق الأوسط، خصوصاً في الشرق الأوسط (سوريا والعراق)، ممّا يجعلها نقطة جذب للمتطرفين الذين يفرّون من هذه المناطق ثم يقرّرون الانتقال إلى أوروبا والدول الأعضاء في منظمة الدول التركية… وهذا يعزّز المخاوف الغربية من انتشار الإرهاب والتطرف الديني الذي قد يؤثر في أمن المجتمعات الأوروبية.