منذ آلاف السنين، وقف الذهب شاهدًا على تحوّلات الحضارات وتقلّبات الثروات وانهيارات الأنظمة. وعلى الرغم من تطوّر الاقتصاد العالمي وتنوّع أدواته، بقي الذهب صامدًا في موقعه كأحد أكثر الأصول قيمة ونفوذًا. إنه أكثر من مجرّد معدن ثمين، هو رمز للقوّة والسيادة والثقة، سواء في خزائن الملوك أو في احتياطيات البنوك المركزية.
في زمن تتسارع فيه الابتكارية والسيادة النقدية وتظهر فيه عملات رقمية تُوصف بأنها “الذهب الجديد”، يُطرح سؤال جاد: هل لا يزال للذهب مكان في النظام المالي العالمي؟ أم أن رقمنة النقد، وصعود العملات المشفّرة والسيادية الرقمية، تنذر بأفول دوره التقليدي؟
الذهب مقابل العملات الرقمية: صراع أم تكامل؟
منذ إطلاق البيتكوين عام 2009، بدأ الحديث عن “الذهب الرقمي”. فمثل الذهب، يُعتبر البيتكوين أصلًا محدود العرض (21 مليون وحدة)، ومتحرّرًا من سيطرة البنوك المركزية.
لكن الفروقات جوهرية:
– الذهب: أصل مادي، مجرّب على مدى آلاف السنين، ويُستخدم كاحتياطي رسمي للدول.
– البيتكوين والعملات الرقمية: أصول رقمية ذات تقلّبات حادّة، لم تثبت استقرارها خلال الأزمات الكبرى.
رغم شعبية البيتكوين بين المستثمرين الأفراد، لا تزال البنوك المركزية تُفضّل الذهب كوسيلة للتحوّط، بسبب ثباته النسبي ومكانته القانونية.
البنوك المركزية الرقمية (CBDC): هل تُقصي الذهب؟
من الصين إلى أوروبا فالخليج، تتسابق البنوك المركزية لإطلاق عملات رقمية سيادية، تُعرف باسم CBDCs. هذه العملات تهدف إلى:
– تسهيل التحويلات الفورية.
– تقليل الاعتماد على النقد الورقي.
– مواجهة العملات المشفّرة الخاصة.
لكن السؤال الأهم: هل تُقصي هذه العملات دور الذهب كاحتياطي نقدي؟
الجواب: على العكس تمامًا. كلما زاد الاعتماد على أنظمة رقمية مركزية، ازدادت الحاجة إلى أصول “خارجية” تُستخدم كأدوات تحوّط. وهذا ما يفسّر:
– ارتفاع مشتريات الذهب من البنوك المركزية في آسيا، أفريقيا، وأميركا اللاتينية.
– إدخال الذهب في مشاريع تسوية بديلة للدولار، كما في تجربة روسيا والصين وإيران.
التكنولوجيا واستخراج الذهب: هل تصبح الندرة مشكلة أقل؟
التقدّم في تقنيات التنقيب، خصوصًا الذكاء الاصطناعي والاستشعار عن بُعد، ساهم في اكتشاف مناجم جديدة، خاصة في أفريقيا وأميركا الجنوبية.
لكن رغم ذلك:
– الكلفة البيئية والمالية لاستخراج الذهب ما زالت عالية.
– كثير من المناجم تقع في مناطق نزاع أو بيئات سياسية غير مستقرة.
لذلك، تبقى وتيرة الإنتاج محدودة، ما يُعزز من استمرارية الندرة.
سيناريوهات مستقبلية: أين يتجه الذهب؟
– السيناريو الأول: الذهب يعود إلى قلب النظام النقدي
مع تصاعد أزمة الثقة في العملات الورقية، وارتفاع الديون السيادية، قد يُعاد التفكير بدور الذهب كضمانة لاستقرار النقد. بعض دول “البريكس” تطرح أفكارًا لربط عملة تجارية مشتركة بالذهب.
– السيناريو الثاني: الذهب يتقاسم النفوذ مع الأصول الرقمية
نموذج مزدوج، تتقاسم فيه العملات الرقمية الرسمية (CBDCs) والذهب أدوارًا متكاملة: الأول كأداة تشغيلية، والثاني كضمانة سيادية.
– السيناريو الثالث: استمرار الذهب كأصل تحوّطي وليس نقدي
في هذا السيناريو، يبقى الذهب بعيدًا عن النظام النقدي الرسمي، لكنه يحتفظ بقيمته كأصل ملاذ خلال الأزمات، وتُخزّنه البنوك المركزية والمستثمرون.
الذهب باقٍ
رغم صعود التكنولوجيا، لم تنجح أي أداة حتى الآن في إزاحة الذهب من موقعه كحافظ للقيمة. بل إن كل التحوّلات الراهنة – من التضخم إلى الحرب التجارية، ومن الأزمات الجيوسياسية إلى فقدان الثقة بالنظام المالي – تزيد من أهميته.
الذهب ليس مجرد معدن، بل هو شاهد دائم على أزمات العالم، وضمانة صامتة تبحث عنها الدول حين تفقد الثقة بكل شيء آخر. الذهب، رغم كل المتغيّرات، لا يزال ركيزة صلبة في عالم ماليّ هشّ.