منذ آلاف السنين، وقف الذهب شاهدًا على تحوّلات الحضارات وتقلّبات الثروات وانهيارات الأنظمة. وعلى الرغم من تطوّر الاقتصاد العالمي وتنوّع أدواته، بقي الذهب صامدًا في موقعه كأحد أكثر الأصول قيمة ونفوذًا. إنه أكثر من مجرّد معدن ثمين، هو رمز للقوّة والسيادة والثقة، سواء في خزائن الملوك أو في احتياطيات البنوك المركزية.
إذا كان الذهب معدنًا نادرًا ومرتفع القيمة، فمن المنطقي أن يتحوّل إلى موضع صراع اقتصادي واستراتيجي بين الدول الكبرى. في هذا الجزء الثاني من سلسلة “الذهب”، نرصد خريطة الإنتاج العالمي: من يملك المناجم؟ من يسيطر على السوق؟ وكيف تؤثّر هذه السيطرة على موازين القوى في العالم؟
الإنتاج العالمي: المشهد العام
الإنتاج العالمي من الذهب يتراوح بين 2,500 و3,600 طن سنويًا، لكن هذا الإنتاج لا يتوزّع بالتساوي بين دول العالم، بل يُحتكر بنسب متفاوتة من عدد محدود من الدول.
وفقًا لأحدث بيانات مجلس الذهب العالمي للعام 2024، فإن أبرز الدول المنتجة للذهب هي:
– الصين: في المرتبة الأولى، بإنتاج سنوي يزيد عن 370 طناً.
– أوستراليا: تليها بإنتاج يصل إلى 320 طناً.
– روسيا: ثالثة بحوالي 310 أطنان.
– الولايات المتحدة: رابعة بإنتاج يُقدّر بـ190 طناً.
– كندا، غانا، بيرو، إندونيسيا، أوزبكستان، وجنوب أفريقيا تُكمل قائمة العشرة الكبار.
ما نلاحظه هنا هو أن آسيا وأوقيانوسيا (الصين وأوستراليا) تسيطران فعليًا على أكثر من 20% من الإنتاج العالمي، في حين تتقلّص حصّة أفريقيا وأميركا اللاتينية تدريجًا رغم وفرة احتياطياتها.
سيطرة الشركات الكبرى
رغم أن الدول تملك الذهب نظريًا، إلا أن واقع السوق يُظهر أن شركات عالمية كبرى هي من تتحكّم بمناجم الإنتاج وأسعار البيع. من أبرز هذه الشركات:
– Newmont Corporation (أميركا)
– Barrick Gold (كندا)
– AngloGold Ashanti (جنوب أفريقيا)
– Polyus (روسيا)
– Zijin Mining (الصين)
هذه الشركات تمتلك أو تدير عشرات المناجم حول العالم، وتقوم بالتنقيب والإنتاج والنقل والبيع، ما يمنحها نفوذًا يتجاوز نفوذ كثير من الحكومات، خاصة في الدول النامية.
أفريقيا: الذهب في قلب النزاعات
تمتلك أفريقيا ثروات ضخمة من الذهب، لكن أغلبها يُستغل ضمن بيئات هشّة سياسيًا وأمنيًا، ما يجعلها عُرضة للنهب أو السيطرة عبر شركات أجنبية. أبرز الحالات:
– السودان: رغم امتلاكه واحدًا من أكبر الاحتياطيات، يُهرَّب جزء كبير من الذهب عبر شبكات غير رسمية.
– مالي وبوركينا فاسو: أصبحتا ساحة لنشاط شركات روسية (مثل فاغنر) ترتبط بتجارة الذهب.
– الكونغو وجنوب السودان: يعانيان من استخراج غير نظامي يُستخدم في تمويل النزاعات المسلحة.
آسيا: تصاعد الدور الصيني
الصين لا تكتفي بكونها المنتج الأول عالميًا، بل توسّعت في السيطرة على مناجم خارج أراضيها، خصوصًا في أفريقيا وآسيا الوسطى. من خلال شركات كـZijin Mining، دخلت الصين بقوّة في مناجم الذهب في طاجيكستان، الكونغو، كندا، وسورينام.
هذا التمدّد يُظهر استراتيجية واضحة: تأمين مخزون استراتيجي من الذهب، كجزء من خطة أوسع لفكّ الارتباط عن الدولار وبناء نظام نقدي بديل.
هل نحن أمام سباق جديد؟
نعم، دون شك. السيطرة على الذهب أصبحت جزءًا من الصراع بين القوى العالمية:
– الولايات المتحدة تملك أكبر احتياطي رسمي من الذهب (8,133 طناً)، لكنها تعتمد على استيراده من حلفائها.
– الصين وروسيا تسعيان إلى تقوية موقعيهما عبر الإنتاج المحلي وشراء الذهب من الأسواق الدولية.
– الاتحاد الأوروبي يملك احتياطات ضخمة موزعة بين ألمانيا، فرنسا، وإيطاليا، لكنه لا يملك قدرة إنتاجية كبيرة.
النتيجة؟ نحن أمام سباق غير معلن لتجميع الذهب، ليس فقط كمعدن نفيس، بل كسلاح جيوسياسي قد يُستخدم في مواجهة أزمات الدولار أو العقوبات الغربية.
التجارة العالمية: أين يُباع الذهب؟
تُعتبر سويسرا نقطة محورية في تجارة الذهب عالميًا. فهي تُعيد صقل وتكرير أكثر من 60% من الذهب العالمي، ما يجعلها عقدة أساسية في شبكة التوزيع.
منصات أخرى مؤثرة:
– بورصة لندن (LBMA): المركز الأساسي لتحديد الأسعار المرجعية.
– بورصة شنغهاي: مدعومة من الصين، تسعى لبناء بديل شرقي لتسعير الذهب.
– دبي: أصبحت مركزًا لتجارة الذهب في الشرق الأوسط، مع بنية تحتية متطورة وشبكات توزيع إقليمية.
بالتالي، الذهب ليس مجرد سلعة تُستخرج من باطن الأرض، بل هو ورقة استراتيجية تلعب بها الدول الكبرى لتحقيق النفوذ الاقتصادي والسياسي. وإذا كانت الحروب تُخاض من أجل النفط في القرن العشرين، فإن السيطرة على الذهب قد تكون أحد مفاتيح التوازن النقدي في القرن الحادي والعشرين.