منذ آلاف السنين، وقف الذهب شاهدًا على تحوّلات الحضارات وتقلّبات الثروات وانهيارات الأنظمة. وعلى الرغم من تطوّر الاقتصاد العالمي وتنوّع أدواته، بقي الذهب صامدًا في موقعه كأحد أكثر الأصول قيمة ونفوذًا. إنه أكثر من مجرّد معدن ثمين، هو رمز للقوّة والسيادة والثقة، سواء في خزائن الملوك أو في احتياطيات البنوك المركزية.
في هذا الجزء الأول من السلسلة، سنفتح ملف الذهب من زاوية أساسية: كم يبلغ حجمه الكلي في العالم؟ ما الذي استُخرج منه حتى اليوم؟ وما الذي تبقّى في باطن الأرض؟ إنها أرقام ومعلومات تكشف لنا عن الندرة التي جعلت من الذهب أكثر من مجرّد سلعة.
إجمالي الذهب المستخرج حتى اليوم
وفقًا لأحدث بيانات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية (USGS)، فإن إجمالي كمية الذهب التي تم استخراجها عبر التاريخ تُقدّر بحوالي 244,000 طن متري حتى سنة 2025. هذا الرقم يشمل كلّ الذهب الذي عثر عليه البشر منذ العصور الفرعونية، مرورًا بإمبراطوريات روما وبيزنطة، وصولًا إلى الحمى الذهبية في كاليفورنيا وحقول المناجم في الصين وأوستراليا وأميركا اللاتينية.
صورة رمزية عن الندرة
قد يبدو الرقم كبيرًا عند قراءته مجرّدًا، لكن إذا أردنا تصويره بصريًا، فالأمر مختلف تمامًا. لو قمنا بصهر كل الذهب الموجود في العالم على هيئة مكعب، فإن هذا المكعب لن يتجاوز 23 مترًا في كل ضلع. أي أنّ كامل الذهب المستخرج عبر آلاف السنين يمكن تخزينه داخل مبنى صغير الحجم مقارنة بمباني الشركات الكبرى أو الملاعب.
هذه الندرة هي ما أعطت الذهب قوّته. فالطلب دائم ومتزايد، والعرض محدود بلّ يتقلّص بفعل صعوبة الاكتشاف والاستخراج. ولهذا بقي الذهب دائمًا أصلًا عالي القيمة، مستقلًا عن تقلّبات العملات الورقية والسياسات النقدية.
التوزيع: ما فوق الأرض وما تحتها
من بين الـ244,000 طن:
– هناك حوالي 187,000 طن موجودة فوق سطح الأرض. تشمل هذه الكمية الذهب الموجود على شكل مجوهرات، سبائك، عملات، وأدوات استثمارية.
– الباقي، أي نحو 57,000 طن، فهو يقع في باطن الأرض ويُصنَّف ضمن فئة “الاحتياطيات القابلة للاستخراج” وفق الشروط الاقتصادية والتقنية الحالية.
بمعنى آخر، نحو 76% من الذهب العالمي متداول فعليًا، بينما لا يزال 24% منه ينتظر استخراجه مستقبلًا. ورغم ذلك، فإن هذا المخزون لا يُعدّ كبيرًا بالمقارنة مع النمو في الطلب السنوي.
إنتاج الذهب سنويًا: وتيرة محدودة
يُنتج العالم سنويًا ما بين 2,500 إلى 3,000 طن من الذهب، بحسب بيانات مجلس الذهب العالمي. في العام 2024، بلغ الإنتاج العالمي ذروته عند 3,661 طنًا، وهو رقم قياسي، لكنه يبقى محدودًا مقارنة بالطلب من البنوك المركزية، المستثمرين، وصناعة المجوهرات.
هذا الإنتاج يُغطّي بالكاد الطلب العالمي، خصوصًا مع تزايد تخزين الذهب كأصل استراتيجي من قبل الدول الناشئة. واللافت أن وتيرة الإنتاج لا تتزايد بسهولة، لأن المناجم الجديدة تتطلّب سنوات طويلة من الدراسة والتصاريح والاستثمار، فضلًا عن التحديات البيئية.
البصمة الجغرافية: من يُنتج الذهب؟
الإنتاج العالمي متركّز بشكل أساسي في دول معيّنة:
– الصين: الأولى عالميًا في الإنتاج، وتحتل موقعًا رياديًا في التنقيب والاستخراج.
– أوستراليا: ثاني أكبر منتج، وتملك بعض أضخم المناجم في العالم.
– روسيا: تمتلك احتياطيات ضخمة، وتعتمد على الذهب كركيزة لتحصين اقتصادها ضد العقوبات الغربية.
تُضاف إلى هذه الدول: الولايات المتحدة، كندا، بيرو، غانا، إندونيسيا، وجنوب أفريقيا. لكن الملاحظ هو بدء تحوّل مراكز الإنتاج تدريجًا نحو آسيا وإفريقيا، حيث الفرص أكبر والتكاليف أقل.
الذهب والمستقبل: لماذا يستمرّ الطلب؟
مع تزايد أزمات الثقة في العملات الورقية، والنقاش حول مستقبل الدولار، تبقى البنوك المركزية في العالم تبحث عن أصول صلبة تحمي بها نفسها. ولهذا عادت إلى شراء الذهب بكميات ضخمة.
– الصين، مثلًا، رفعت احتياطياتها الرسمية إلى أكثر من 2,260 طنًا.
– روسيا خزّنت أكثر من 2,300 طن قبل غزو أوكرانيا.
هذه الأرقام تعبّر عن مسار واضح: الذهب لن يتراجع. بل على العكس، كلما زادت تعقيدات الاقتصاد العالمي، ارتفعت قيمته الاستراتيجية.
ما بين ندرة الكمية وارتفاع الطلب، يبقى الذهب أصلًا نادرًا وثمينًا له رمزيته وواقعيته في آن. إنه ليس مجرّد معدن، بل هو نظام ثقة قديم متجدّد، لا يمكن الاستغناء عنه مهما بلغت قوّة التكنولوجيا أو العملات الرقمية.