في عالم يتّجه بخطى متسارعة نحو الطاقة النظيفة والتحوّل الرقمي، برزت المعادن النادرة كأحد المفاتيح الرئيسية في السباق نحو المستقبل. هذه المجموعة من العناصر الكيميائية، التي تضمّ 17 عنصرًا، تدخل في صميم كل ما يُعتبر “متقدمًا”: من البطاريات والسيارات الكهربائية إلى الأقمار الاصطناعية وأنظمة التوجيه في الصواريخ. لكن خلف بريق هذه المعادن، تتوارى معارك جيوسياسية شرسة وتهديدات بيئية عميقة وأسئلة وجودية عن عدالة التنمية.
في هذا الملف، نسلّط الضوء على الأبعاد المختلفة لهذه الظاهرة، بدءًا من تعريفها الجيولوجي والصناعي، وصولًا إلى أدوارها الجيوسياسية، وما تطرحه من تحديات بيئية وهيكلية.
في الوقت الذي تروّج فيه الدول الكبرى لمستقبل أخضر قائم على السيارات الكهربائية والطاقة المتجدّدة، يُطرح سؤال أساسي: ما ثمن هذا التحوّل البيئي على الأرض والإنسان؟ رغم أنّ المعادن النادرة تُعتبر ضرورية لخفض الانبعاثات، فإن عمليات استخراجها ومعالجتها تصنَّف من بين الأنشطة الأكثر تلويثًا للبيئة، سواء من حيث استهلاك المياه، أو إنتاج النفايات السامة، أو تهديد الصحة العامة للمجتمعات القريبة من مواقع الإنتاج.
تعدين ملوّث… على هامش النظام البيئي
تُستخرج المعادن النادرة من خامات تحتويها بنسب ضئيلة جدًا، ممّا يعني الحاجة إلى معالجة كميات ضخمة من الصخور للحصول على كميات محدودة من العنصر المستهدف. ولتوضيح ذلك:
– للحصول على 1 طن من الأوكسيد النادر، قد يلزم معالجة أكثر من 1000 طن من الخام.
– تتطلب هذه العملية استخدام مواد كيماوية قوية مثل حمض الكبريت وهيدروكسيد الصوديوم، وحمض النيتريك.
– تُنتج نفايات ضخمة تحتوي على عناصر ثقيلة مشعّة مثل الثوريوم واليورانيوم، والتي تُترك غالبًا دون معالجة حقيقية.
– نتيجة لذلك، تتحوّل بعض مواقع التعدين إلى مناطق ميتة بيئيًا يصعب استصلاحها لعقود.
باوتو الصينية: المثال الأشهر على الكارثة البيئية
في مدينة باوتو شمال الصين، التي تُعَدّ مركزًا عالميًا لتكرير المعادن النادرة، تظهر بشكل صارخ تداعيات هذا النشاط:
– توجد بحيرة اصطناعية للنفايات تُعرف باسم “بحيرة الموت ” (Tailing Pond)، مملوءة بمخلّفات سائلة سوداء تحتوي على معادن ثقيلة ومواد مشعّة.
– تسرّبت هذه المواد إلى المياه الجوفية، ممّا أدى إلى ارتفاع نسب السرطان في المجتمعات المحلية، وحدوث تشوّهات خلقية، ومشاكل في الزراعة.
– تغيب المعايير البيئية الصارمة بسبب التراخي الحكومي أحيانًا، أو الضغط الصناعي والاقتصادي.
مفارقة العدالة المناخية: الجنوب يُلوّث لأجل الشمال
ما يفاقم من سوء الوضع أن معظم عمليات الاستخراج والتكرير تتم في دول نامية أو ذات حكومات أقل تشدّدًا في الرقابة البيئية، ممّا يفتح الباب أمام نوع جديد من “الاستعمار الاستخراجي”، بحيث تتحمّل دول الجنوب الكلفة البيئية لصالح استهلاك الشمال.
في ميانمار، أدّى التعدين غير المنظّم للمعادن النادرة إلى تدمير غابات كاملة ومصادر مياه تقليدية. وفي الكونغو الديمقراطية حيث يُستخرج الكوبالت (المرتبط بالبطاريات)، تنتشر انتهاكات بيئية وحقوقية شديدة، تشمل تشغيل الأطفال.
إعادة التدوير: أمل بيئي غير كافٍ بعد
رغم أنّ إعادة تدوير الإلكترونيات تمثّل أملًا لتقليل الحاجة للتعدين، فإن هذه الصناعة لا تزال تواجه عدّة تحدّيات:
– التكاليف العالية لفصل واستعادة العناصر النادرة.
– غياب البنية التحتية الصناعية المتخصّصة في معظم الدول.
– الحاجة إلى سياسات ملزمة لجمع النفايات الإلكترونية وفرزها.
وفق دراسة لمنظمة الأمم المتحدة، لا تتمّ إعادة تدوير سوى 17% فقط من النفايات الإلكترونية عالميًا بشكل فعّال.
الحلول الصعبة: توازن بين الحاجة والضرر
التحوّل البيئي لا يمكن أن ينجح ما لم يُرفق بـ:
– فرض معايير بيئية عالمية موحّدة على قطاع المعادن.
– دعم الدول المنتِجة فنيًا وتقنيًا للحدّ من آثار التعدين.
– شفافية سلاسل التوريد للتأكّد من أنّ المنتجات “الخضراء” لا تقوم على ممارسات ملوّثة.
– استثمار أكبر في الاقتصاد الدائري وتقنيات الاستخراج الأقل ضررًا.
الاستدامة لا تُقاس بالانبعاثات فقط
إذا كانت العدالة المناخية تُعنى بتوزيع الأعباء والفوائد بشكل عادل بين الدول والمجتمعات، فإن ملف المعادن النادرة يكشف أن التحوّل الأخضر لا يزال بعيدًا من هذه العدالة. فبينما يستهلك العالم المتقدّم منتجات عالية التقنية مدفوعة بـ”الاستدامة”، يدفع العالم النامي الثمن البيئي والصحي. ومن دون تدخّل دولي حاسم في تنظيم هذا القطاع، قد يتحوّل الطموح المناخي إلى مأساة بيئية جديدة.