في عالم يتّجه بخطى متسارعة نحو الطاقة النظيفة والتحوّل الرقمي، برزت المعادن النادرة كأحد المفاتيح الرئيسية في السباق نحو المستقبل. هذه المجموعة من العناصر الكيميائية، التي تضمّ 17 عنصرًا، تدخل في صميم كل ما يُعتبر “متقدمًا”: من البطاريات والسيارات الكهربائية إلى الأقمار الاصطناعية وأنظمة التوجيه في الصواريخ. لكن خلف بريق هذه المعادن، تتوارى معارك جيوسياسية شرسة وتهديدات بيئية عميقة وأسئلة وجودية عن عدالة التنمية.
في هذا الملف، نسلّط الضوء على الأبعاد المختلفة لهذه الظاهرة، بدءًا من تعريفها الجيولوجي والصناعي، وصولًا إلى أدوارها الجيوسياسية، وما تطرحه من تحديات بيئية وهيكلية.
إذا كانت المعادن النادرة تُقدَّم عادة بوصفها عصب الطاقة النظيفة، فإنها في الواقع تلعب دورًا أكثر حسمًا وخطورة: إنها الحجر الأساس في الصناعات العسكرية والتكنولوجيات المتقدّمة. من أنظمة الصواريخ والدروع الذكية، إلى الهواتف الذكية وأشباه الموصلات، أصبحت هذه العناصر الـ17 شرطًا غير مرئي لقوة الدول وهيمنتها، سواء في السلم أو في الحرب. وهذا ما يُفسّر تصاعد حدّة الصراع بين الولايات المتحدة والصين على تأمين سلاسل توريدها، وسباق الشراكات الاستراتيجية حول العالم.
أسلحة المستقبل… تعتمد على عناصر نادرة
تلعب المعادن النادرة دورًا محوريًا في تطوير ما يُعرف بـ”التفوق التقني” في الجيوش الحديثة. إليك بعض الأمثلة:
– النيوديميوم والديسبروسيوم: يدخلان في صناعة مغناطيسات المحركات المستخدمة في الطائرات المقاتلة والطائرات بدون طيار.
– الإيتريوم: يُستخدم في طلاءات مقاومة للحرارة العالية في محركات الطائرات النفاثة.
– اللانثانوم: يدخل في صناعة العدسات البصرية الدقيقة لأجهزة الاستشعار والتصويب.
– الغاليوم: ضروري في تصنيع الرادارات الحديثة والاتصالات فائقة السرعة.
وفقًا لتقارير وزارة الدفاع الأميركية، تحتوي مقاتلة واحدة من طراز F-35 على أكثر من 400 كيلوغرام من المعادن الأرضية النادرة. كما أن أنظمة الدفاع الصاروخي المتقدّمة مثل “THAAD” و”Patriot” تعتمد على هذه العناصر في أنظمتها البصرية والإلكترونية.
التكنولوجيا المدنية والعسكرية: ازدواجية غير قابلة للفصل
ما يُعقّد المشهد، أن المعادن النادرة تُستخدم في التكنولوجيا المدنية والعسكرية على حد سواء، ممّا يجعل التحكّم فيها مسألة ذات أولوية وطنية. فعلى سبيل المثال، المغناطيسات النادرة المستخدمة في السيارات الكهربائية هي نفسها المُستخدمة في أنظمة الدفع للغواصات النووية.
هذا التداخل خلق ما يُعرف بـ”الازدواجية الاستراتيجية”، أي أن أي تهديد لإمدادات المعادن النادرة يؤثر على الأمن القومي والقدرة الصناعية والتنمية التكنولوجية في آن.
الصين: منجم وسلاح في آنٍ
أدركت الصين منذ وقت مبكر القيمة العسكرية لهذه المعادن. ففي العام 2021، هدّد مسؤولون صينيون بفرض قيود على صادرات المعادن النادرة لشركات الدفاع الأميركية مثل “لوكهيد مارتن” ردًا على صفقات سلاح لتايوان. هذا النوع من الضغط لم يكن رمزيًا فقط، بل كشف عن إمكانية استخدام بكين لمواردها كسلاح جيوسياسي.
تُسيطر الصين اليوم على نحو:85% من سوق مغناطيسات النيوديميوم العالمية. أكثر من 90% من سلاسل الإمداد الخاصة بعناصر تدخل في تصنيع أشباه الموصلات. وهذا ما يفسّر اندفاع الولايات المتحدة لاعتبار هذه العناصر “موارد استراتيجية”، وتضمينها في خطط الدفاع الوطني.
الرّد الأميركي: استعادة السيطرة بأي ثمن
قامت واشنطن بعدّة خطوات في السنوات الأخيرة لتقليل الاعتماد على الصين:
– تمويل إعادة تشغيل منجم “ماونتن باس” وإعادة توطين مراحل التكرير داخليًا.
– إنشاء “مكتب سياسة المعادن الحيوية” ضمن وزارة الدفاع.
– توقيع اتفاقيات مع أوستراليا وكندا لاستيراد مواد مُكرّرة آمنة.
– الاستثمار في تقنيات بديلة تقلل من الاعتماد على المغناطيسات النادرة.
كما أُدرجت المعادن النادرة في خطط قانون “CHIPS and Science Act”، الذي يسعى إلى دعم سلاسل التوريد المتعلقة بأشباه الموصلات والمعادن الاستراتيجية.
العالم أمام “حرب باردة تكنولوجية”؟
ما يجري بين الصين والولايات المتحدة لا يُعدّ مجرّد تنافس اقتصادي، بل صراع على تحديد من يكتب معايير التكنولوجيا العالمية. فكلّ طرف يحاول تأمين موطئ قدم في البلدان الغنية بالموارد، سواء عبر الاستثمارات أو القروض أو المشاريع المشتركة أو حتى النفوذ الديبلوماسي المباشر.
الدول النامية تجد نفسها في قلب هذا الصراع: بين العروض الصينية السريعة وغير المشروطة، والبرامج الغربية المشروطة بالإصلاحات البيئية والحوكمة.
السيادة لا تُقاس فقط بالنفط أو السلاح
المعادن النادرة هي اليوم المعيار الجديد للسيادة. من يملكها أو يتحكم بطرق إنتاجها، يملك مفاتيح التقدّم العلمي والتفوّق الدفاعي لعقود آتية. لذلك، أي دولة لا تضع استراتيجية واضحة تجاه هذه الموارد، سواء بالحيازة أو الشراكة أو التدوير أو الابتكار، تخاطر بأن تُقصى من مسرح التكنولوجيا العالمي وتصبح تابعة لا فاعلة.