في عالم يتّجه بخطى متسارعة نحو الطاقة النظيفة والتحوّل الرقمي، برزت المعادن النادرة كأحد المفاتيح الرئيسية في السباق نحو المستقبل. هذه المجموعة من العناصر الكيميائية، التي تضمّ 17 عنصرًا، تدخل في صميم كل ما يُعتبر “متقدمًا”: من البطاريات والسيارات الكهربائية إلى الأقمار الاصطناعية وأنظمة التوجيه في الصواريخ. لكن خلف بريق هذه المعادن، تتوارى معارك جيوسياسية شرسة وتهديدات بيئية عميقة وأسئلة وجودية عن عدالة التنمية.
في هذا الملف، نسلّط الضوء على الأبعاد المختلفة لهذه الظاهرة، بدءًا من تعريفها الجيولوجي والصناعي، وصولًا إلى أدوارها الجيوسياسية، وما تطرحه من تحديات بيئية وهيكلية.
في ظل تصاعد التهديدات المناخية وتنامي التوافق الدولي على تقليص الانبعاثات الكربونية، أصبحت الطاقة المتجدّدة والسيارات الكهربائية عنوان المرحلة المقبلة من الاقتصاد العالمي. لكن هذه “الثورة الخضراء” تستند إلى موارد قد لا تكون خضراء تمامًا: المعادن النادرة. فبين التوربينات الهوائية، والخلايا الشمسية، والبطاريات القابلة لإعادة الشحن، تقف هذه العناصر في قلب البنية التحتيّة للانتقال الطاقي، وتطرح في الوقت نفسه تحديات بيئية وجيوسياسية معقّدة.
التحوّل الطاقي… قائم على معادن استراتيجية
بحسب تقرير مشترك للبنك الدولي و”وكالة الطاقة الدولية” (IEA) في العام 2021، إنتاج السيارات الكهربائية يتطلّب معادن نادرة بمعدلات تفوق السيارات التقليدية بـ 6 مرات. كما أن إنشاء مزرعة رياح بحرية بسعة 1 غيغاواط يحتاج إلى حوالي 250 طنًا من النيوديميوم والديسبروسيوم، وهما من العناصر الحيوية في تصنيع المغناطيسات الدائمة.
من أبرز المعادن المطلوبة:
– النيوديميوم والتيربيوم: للمغناطيسات عالية الأداء المستخدمة في توربينات الرياح.
– الليثيوم، الكوبالت، النيكل، المنغنيز: في البطاريات القابلة للشحن.
– الإيتريوم، الإنديم، الغاليوم: في الخلايا الشمسية وأجهزة التحكم الدقيقة.
ازدياد الطلب وتضخّم الفجوة
تشير تقديرات “وكالة الطاقة الدولية” إلى أن الطلب على هذه المعادن سيزداد بمعدل 4 إلى 6 أضعاف بحلول العام 2040 إذا التزم العالم أهداف اتفاق باريس. بل إن بعض التقديرات تتوقّع أن العرض الحالي لن يكون كافيًا لتلبية احتياجات الاقتصاد الأخضر، خصوصًا إذا استمرت المركزية الإنتاجية في الصين.
الوجه الآخر للتحوّل: التلوّث والمعالجة القذرة
رغم أن الطاقة المتجدّدة صديقة للبيئة من حيث الاستخدام، فإن المواد التي تقوم عليها ليست كذلك دائمًا. فعمليات التعدين، خاصة في الصين ومنغوليا، تُنتج كميات هائلة من النفايات السامة والإشعاعية. وفي منطقة “باوتو” الصينية، يُقال إن بحيرة النفايات الناتجة عن معالجة المعادن النادرة تُعد من أكثر المناطق تلوثًا في العالم.
يُضاف إلى ذلك:
– استخدام كميات هائلة من المياه والمواد الكيميائية.
– تدمير النظم البيئية المحلية.
– تدهور صحة المجتمعات القريبة من مواقع التعدين.
المعادلة الصعبة: من سيقود التحوّل دون أن يدفع الكلفة البيئية؟
تكمن المفارقة في أن الدول الصناعية التي تدعو إلى التحوّل الأخضر لا ترغب غالبًا في إقامة مصانع تكرير داخل أراضيها، بسبب المخاوف البيئية. وهكذا تُصدّر “الكلفة القذرة” إلى الدول النامية، حيث البيئة أقل حماية، والحكومات أكثر ضعفًا أمام الضغط الاستثماري.
هذا التوجه يخلق شكلًا جديدًا من “الاستعمار البيئي”، تُستغل فيه الموارد والمعالجة في الجنوب العالمي لصالح استهلاك الشمال الصناعي.
إعادة التدوير والتكنولوجيا: حلول واعدة لكنها غير كافية
– التدوير الحضري (Urban Mining): يشير إلى استخراج المعادن من النفايات الإلكترونية، مثل الهواتف والحواسيب. لكنه يواجه تحديات تقنية وتنظيمية.
– البحث عن بدائل: تسعى بعض الشركات لتطوير مواد مغناطيسية لا تعتمد على العناصر النادرة، أو استخدام بطاريات لا تحتاج إلى الكوبالت، لكنها لا تزال في مراحل مبكرة.
– التنويع الجغرافي: تقود أوروبا وأميركا مبادرات لتقليل الاعتماد على الصين، لكن إنشاء سلاسل توريد جديدة يتطلّب وقتًا وتمويلًا طويل الأمد.
بيئة خضراء على أسس غير مستدامة
تكشف العلاقة بين المعادن النادرة والتحوّل الطاقي عن مفارقة مركزية: التقدّم نحو مستقبل أنظف يتطلّب موارد يصعب الحصول عليها من دون تلويث الحاضر. وإذا لم يُرفق هذا التحوّل بإصلاح جذري لسلاسل التوريد وتقنيات التعدين وأنظمة الحوكمة البيئية، فإن البنية التحتية الخضراء التي يسعى إليها العالم قد تُبنى على أساس هشّ، يهدّد العدالة المناخية والاستدامة البيئية في آن.