في عالم يتّجه بخطى متسارعة نحو الطاقة النظيفة والتحوّل الرقمي، برزت المعادن النادرة كأحد المفاتيح الرئيسية في السباق نحو المستقبل. هذه المجموعة من العناصر الكيميائية، التي تضم 17 عنصرًا، تدخل في صميم كل ما يُعتبر “متقدمًا”: من البطاريات والسيارات الكهربائية إلى الأقمار الاصطناعية وأنظمة التوجيه في الصواريخ. لكن خلف بريق هذه المعادن، تتوارى معارك جيوسياسية شرسة وتهديدات بيئية عميقة وأسئلة وجودية عن عدالة التنمية.
في هذا الملف، نسلّط الضوء على الأبعاد المختلفة لهذه الظاهرة، بدءًا من تعريفها الجيولوجي والصناعي، وصولًا إلى أدوارها الجيوسياسية، وما تطرحه من تحديات بيئية وهيكلية.
في قلب السباق العالمي نحو التكنولوجيا المتقدمة والتحوّل الطاقي، تبرز “المعادن الأرضية النادرة” بوصفها المورد الاستراتيجي الجديد الذي بدأت تتشكّل حوله تحالفات ومواجهات ذات طابع جيوسياسي واقتصادي عميق. فهذه المعادن، وعددها 17 عنصراً، أصبحت اليوم المادة الخام اللازمة لصناعة المستقبل، من بطاريات السيارات الكهربائية إلى أنظمة الدفاع الصاروخي. غير أن ما يُقلق القوى الكبرى ليس فقط الطلب المتصاعد على هذه المعادن، بل الخريطة الجغرافية المعقّدة التي تُنتَج وتُكرَّر فيها وتحتكرها حتى اللحظة دولة واحدة تقريباً هي الصين.
احتكار الإنتاج والمعالجة
وفق بيانات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية (USGS) للعام 2023، تبلغ الاحتياطات العالمية من المعادن النادرة نحو 120 مليون طن. وتُعدّ الصين الدولة الأبرز من حيث الإنتاج، إذ تُنتج ما يقارب 70% من الإنتاج العالمي الخام، وتُسيطر على أكثر من 85% من قدرة التكرير العالمية. تأتي بعدها دول مثل الولايات المتحدة (15%)، أوستراليا (7%)، وميانمار (6%)، إلا أن قدراتها على المعالجة محدودة، ممّا يُبقيها معتمدة على الصين في سلسلة القيمة.
الهيمنة الصينية ليست وليدة اللحظة. فمنذ تسعينيات القرن الماضي، اعتمدت بكين استراتيجية مدروسة للسيطرة على هذه السوق، عبر دعم أسعار الإنتاج، وتوسيع قدراتها التكريرية، وفرض قيود على التصدير في بعض الفترات. وفي العام 2010، استخدمت الصين هذا الاحتكار للضغط على اليابان سياسيًا خلال نزاع بحري، عندما علّقت تصدير المعادن النادرة إليها، وهو ما اعتُبر إنذارًا استراتيجياً للغرب.
خريطة الاحتياطات: فرص كامنة وتحديات جيوسياسية
رغم هيمنة الصين على الإنتاج، فإن الاحتياطات موزّعة بشكل أكثر تنوعًا. تحتل البرازيل وفيتنام مراتب متقدمة من حيث حجم المخزونات (نحو 22 مليون طن لكل منهما)، إلا أن ضعف البنى التحتية وعدم الاستقرار السياسي والبيئي يعوّقان استغلالها الفعّال.
أما أفريقيا، فتمتلك فرصًا كبيرة لم تُستثمر بعد، خصوصًا في دول مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، تنزانيا، وناميبيا. إلا أن غياب الشفافية وضعف الحوكمة وتنافس القوى الكبرى على النفوذ، تجعل من هذه الموارد هدفًا لحروب غير معلنة.
الرهانات الأميركية والأوروبية
إزاء هذه الهيمنة الصينية، تحرّكت واشنطن بروح “الاستقلال الاستراتيجي”، عبر إعادة تشغيل منجم “ماونتن باس” في كاليفورنيا، وتوقيع اتفاقيات مع دول حليفة كموزمبيق وكندا. كما أطلقت وزارة الطاقة الأميركية استثمارات بمليارات الدولارات في مشاريع تدوير المعادن وإنشاء سلاسل توريد بديلة.
في المقابل، تبنّى الاتحاد الأوروبي عام 2023 “قانون المواد الخام الحيوية”، الهادف إلى ضمان تأمين 40% من احتياجاته محليًا بحلول 2030، وتقليص التبعية للصين من 98% إلى أقل من 65%. كما تعزّز التعاون مع دول أفريقية لتطوير البنية التحتية التعدينية، ضمن ما يُعرف بـ”الدبلوماسية الخضراء”.
آسيا الوسطى: ساحة تنافس ناشئة
تبرز جمهوريات آسيا الوسطى (كازاخستان، قرغيزستان، أوزبكستان) كمناطق واعدة تحتوي على احتياطات غير مستغلة من العناصر النادرة. ومع انخراط الصين عبر مبادرة “الحزام والطريق”، وسعي روسيا للحفاظ على نفوذها التاريخي، بدأ الغرب أيضًا بعقد شراكات استراتيجية مع هذه الدول لتأمين مصادر جديدة خارج النفوذ الصيني.
جغرافيا غير متوازنة لعالم متحوّل
الجغرافيا العالمية للمعادن النادرة تُشبه اليوم إلى حد بعيد خريطة النفط في بدايات القرن العشرين، لكن مع فارق أساسي: المنافسة أكثر تعقيدًا لأن المورد لا يكمن فقط في التربة، بل في التكنولوجيا التي تُعالجه، وسلاسل القيمة التي تتحكّم به. لذا، فإن فهم هذه الجغرافيا ليس مجرد معرفة أين تقع المناجم بل كيف تُدار سياسياً واقتصادياً.