منذ انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان عام 2021، لم يتوقف الجدل حول قاعدة باغرام الجوية، أكبر قاعدة عسكرية أجنبية شهدتها البلاد منذ الغزو الأميركي عام 2001. وهذه القاعدة ليست مجرد منشأة عسكرية ضخمة تقع على بُعد 60 كيلومترا شمال كابل، وإنما هي رمز للهيمنة الأميركية على أفغانستان.
اليوم، مع تصاعد التوترات بين واشنطن وكلٍّ من إيران والصين، عاد اسم باغرام إلى الواجهة كخيار إستراتيجي محتمل، ما يطرح مجددا سؤال السيادة: هل من حق الولايات المتحدة أن تعود وتوظف أرض أفغانستان كورقة في صراعاتها الكبرى، فيما الأفغان تعبوا من أن يكونوا ساحة لحروب الآخرين؟
قاعدة بحجم مدينة صغيرة
كانت باغرام قلب العمليات الأميركية وحلف شمال الأطلسي (الناتو) طوال عقدين، تضم مدرجين بطول يزيد على 3500 متر، قادرين على استقبال الطائرات العسكرية الثقيلة مثل C-17 وB-52. كما تحتوي على مستشفيات ميدانية متطورة، ومخازن وقود وذخيرة، ومرافق اتصالات واستخبارات متقدمة.
تشير تقارير عسكرية إلى أن القاعدة استوعبت في ذروتها أكثر من 40 ألف جندي وموظف مدني، ما جعلها عمليا مدينة عسكرية قائمة بذاتها. هذه البنية الضخمة تجعلها مغرية لأيّ عودة أميركية محتملة، إذ لا تحتاج واشنطن إلى البدء من الصفر إذا أرادت إعادة التموضع في قلب آسيا.
إيران أولا: منصة حدودية للمراقبة والضغط
أكثر ما يُغري واشنطن في باغرام اليوم هو قربها النسبي من الحدود الشرقية لإيران.. المسافة الجوية بين كابل وزاهدان، في إقليم سيستان- بلوشستان الإيراني، لا تتجاوز ألف كيلومتر، أي أقل من ساعة طيران. هذا القرب يمنح الولايات المتحدة ميزة إستراتيجية في حال قررت تكثيف الضغط العسكري أو الاستخباراتي على إيران.
من باغرام يمكن تشغيل طائرات مسيّرة متوسطة المدى بفاعلية أكبر، وتسيير دوريات استطلاعية ترصد النشاطات العسكرية والنووية الإيرانية. كما أن القاعدة توفر نقطة انطلاق لأي عمليات خاصة أو تدخل سريع في حال اندلاع مواجهة، خصوصا أن شرقي إيران منطقة أقل تحصينا من الداخل الإيراني العميق.
بالنسبة لصناع القرار في واشنطن، مجرد التلويح بإعادة استخدام باغرام يشكل ورقة ضغط إضافية على طهران.
الصين ثانيا: خاصرة شينغيانغ
لكن إيران ليست وحدها في الحسابات؛ فالصين التي تبسط نفوذها في آسيا الوسطى عبر مشاريع “الحزام والطريق”، وتنشط في باكستان وطاجيكستان، تُعتبر هاجسا أكبر لواشنطن.
من وجهة نظر أميركية، قاعدة باغرام تتيح مراقبة خاصرة الصين الغربية، وتحديدا إقليم شينغيانغ الذي يشكّل عقدة حساسة لبكين، بسبب ملف الإيغور والنزعة الانفصالية هناك.
التواجد الأميركي المحتمل في باغرام لا يعني بالضرورة التحضير لعمليات مباشرة ضد الصين، لكنه يوفر موقعا إستراتيجيا لإظهار القدرة على مراقبة المنطقة، ومنع بكين من التحرك بحرية مطلقة في جوارها القريب. بمعنى آخر، باغرام بالنسبة لواشنطن ورقة ضمن لعبة التوازنات الكبرى مع القوى المنافسة.
الحسابات الأميركية لا تقتصر على هذا فحسب، بل تتجاوزها إلى العلاقة المتنامية بين بكين وموسكو؛ فمنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، ازدادت الشراكة الإستراتيجية بين الصين وروسيا عمقا، سواء في مجالات الطاقة أو التعاون العسكري والتكنولوجي. هنا تبرز القاعدة كأداة محتملة لواشنطن من أجل التموضع في خاصرة هذا المحور الجديد.
وجود عسكري أميركي في قلب آسيا سيمنح واشنطن القدرة على مراقبة خطوط التواصل والطرق التجارية التي تسعى بكين وموسكو لفتحها عبر آسيا الوسطى، كما أنه يبعث برسالة واضحة بأن واشنطن لن تسمح بقيام كتلة أوراسية مغلقة في وجهها.
غير أن هذه الحسابات الكبرى، مهما بدت مغرية لصناع القرار الأميركي، تصطدم مجددا بحقيقة لا يمكن تجاوزها: أن أرض أفغانستان ليست ملكا لأحد كي تُستعمل منصة لوقف التحالفات بين الدول الكبرى، بل هو بلد ذو سيادة يجب أن يُحمى من أن يكون أداة في لعبة الآخرين.
السيادة الأفغانية على المحك
إعادة طرح باغرام كخيار عسكري أميركي يعيد إنتاج المعادلة نفسها: أرض أفغانية تُستعمل كمنصة لمواجهة قوى إقليمية ودولية، من دون أي اعتبار لحقوق الأفغان أو مصالحهم!
حركة “طالبان”، التي تسيطر اليوم على البلاد، ترى في القاعدة رمزا للاحتلال، وقد رفضت بشكل قاطع أي محاولة أميركية للعودة. وبغض النظر عن موقفنا من سياسات الحركة، فإن تمسّكها بهذا الموقف يعكس حساسية السيادة لدى الأفغان بعد عقود من الحروب.
مخاطر عودة القاعدة
إضافة إلى انتهاك السيادة، فإن إعادة تشغيل باغرام قد تجعل أفغانستان مجددا هدفا مباشرا.. أي وجود أميركي هناك سيكون عرضة لهجمات انتقامية من إيران أو غيرها، فضلا عن أنه سيعيد استقطاب الجماعات الجهادية التي لطالما اعتبرت الوجود الأجنبي مبررا لتحركاتها. بمعنى آخر، قد تعيد واشنطن إشعال الساحة الأفغانية من جديد، وهذه المرة كجزء من صراع إقليمي- دولي أكبر.
السيادة قبل الإستراتيجيات
النقاش حول باغرام يكشف بوضوح كيف أن القوى الكبرى تنظر إلى الدول الصغيرة كمساحات مفتوحة لمصالحها؛ لكن الدفاع عن سيادة أفغانستان يقتضي وضع حد لهذا المنطق. أفغانستان ليست ساحة لتصفية الحسابات الأميركية- الإيرانية أو الأميركية- الصينية. إنها بلد يسعى- رغم كل العثرات- إلى الاستقرار وإعادة البناء.
المفارقة أن واشنطن، التي ترفع شعار الديمقراطية والسيادة عندما يخدم مصالحها، لا تتردد في التفكير بالعودة إلى قاعدة باغرام، غير عابئة بأن أي خطوة كهذه ستقوّض استقلال دولة أخرى. الرسالة التي ينبغي أن تُقال بوضوح: لا استقرار في المنطقة ما لم تُحترم سيادة الدول، وأفغانستان أولها.
قد تبدو القاعدة في نظر واشنطن “ورقة إستراتيجية” في صراعاتها، لكنها بالنسبة للأفغان جرح لم يلتئم بعد. وإذا أرادت واشنطن أن تثبت احترامها للقوانين الدولية وللشعوب، فعليها أن تُغلق هذا الملف نهائيا، وأن تبحث عن مقاربات تحترم سيادة أفغانستان بدلا من العودة إلى منطق “الاحتلال المقنّع”.