القمة التي جمعت دونالد ترامب بفولوديمير زيلينسكي وعدد من الزعماء الأوروبيين في واشنطن لم تُقدم كحدث بروتوكولي عابر، بل كمنعطف قد يحدد مصير الحرب الأوكرانية. لكن ما رشح من تسريبات أوضح أن روسيا هي الطرف الأكثر ارتياحا لما جرى.
فترامب، الذي قدّم نفسه بصفته “صانع سلام”، طرح عمليا ما يشبه الرؤية الروسية: على أوكرانيا أن تتخلى عن حلمها بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) وأن تنسى شبه جزيرة القرم، مقابل وقف لإطلاق النار وتسوية تُعيد ترتيب الأولويات.
الصحف الغربية تحدثت عن صفقة سلام غير مكتملة: وقف إطلاق نار مؤقت، واعتراف واقعي بالسيطرة الروسية على القرم، وتنازلات أوكرانية في دونباس، مقابل ضمانات غربية مبهمة
لكن الأوروبيين، الذين طالما رفعوا الصوت بدعم كييف، لم يرفضوا الفكرة جذريا.. كل ما قالوه إن أي حل يجب أن يكون “مقبولا من أوكرانيا”، وهي صيغة فضفاضة تخفي رغبتهم الحقيقية في الخروج من حرب أنهكت اقتصاداتهم وأربكت أمن الطاقة.
بهذا المعنى، تحول الحلفاء الغربيون من دعاة لاستمرار الحرب إلى باحثين عن مخرج، وهو ما كانت موسكو تنتظره منذ البداية.
الطرح الأميركي الجديد حول “ضمانات أمنية أوروبية”، على غرار المادة الخامسة في “الناتو”، كشف أيضا أن واشنطن لم تعد راغبة في تحمّل العبء العسكري المباشر.. أوروبا ستتولى الخط الأول، فيما تكتفي الولايات المتحدة بدور داعم ومتأخر.
هذا التحول يُظهر أن إستراتيجية الغرب تتآكل من الداخل، وأن التضحيات التي قدّمتها موسكو على مدى ثلاث سنوات بدأت تؤتي ثمارها: الغرب لم يعد يملك النفس الطويل، بينما روسيا ما زالت صامدة ومتماسكة.
الصحف الغربية تحدثت عن صفقة سلام غير مكتملة: وقف إطلاق نار مؤقت، واعتراف واقعي بالسيطرة الروسية على القرم، وتنازلات أوكرانية في دونباس، مقابل ضمانات غربية مبهمة.
صحيح أن زيلينسكي رفضها، لكن مجرد طرحها علنا من ترامب، وبحضور الأوروبيين، يعني أن الخطوط الحمراء التي وضعها الغرب قبل عامين بدأت تتلاشى! لم يعد أحد يتحدث عن “هزيمة روسيا”، بل عن “كيفية إنهاء الحرب” ولو بشروط موسكو.
من زاوية موسكو، القمة أكّدت صحة الرهان على عامل الوقت؛ فبينما استنزفت العقوبات الاقتصاد الأوروبي، وأثارت خلافات بين عواصم الغرب، بقيت روسيا قادرة على تمويل حربها، وتعزيز تحالفاتها مع آسيا، والحفاظ على زمام المبادرة في الميدان.
وحتى إذا لم يتبلور اتفاق نهائي قريبا، فإن مجرد دخول أوكرانيا في نقاشات علنية حول التنازل عن القرم والناتو يُعد انتصارا إستراتيجيا لموسكو، لم يكن ممكنا تخيله قبل سنوات.
ما جرى في واشنطن يفتح الباب أمام “سلام روسي الطابع”: تسوية تكرس ما تحقق ميدانيا، وتجبر الغرب على الاعتراف بالوقائع.
ترامب يسعى لتسويق الأمر كإنجاز شخصي يعيده إلى الساحة الدولية، والأوروبيون يريدون إغلاق الجرح النازف عند حدودهم، فيما يجد زيلينسكي نفسه معزولا، محاصرا بين ضغط الخارج وتراجع حماسة الداخل. وفي هذا كله، لا تبدو روسيا مضطرة لتقديم تنازلات؛ فهي تعلم أن خصومها تعبوا، وأن التوازن يميل تدريجيا لصالحها.
في النهاية، قد لا يكون “سلام واشنطن” قريبا، لكن المؤكد أن القمة أبرزت تحولا جوهريا: الغرب بات يبحث عن طريقة للتعايش مع المكاسب الروسية، لا عن وسيلة لإلغائها. وهذه، في حد ذاتها، رسالة واضحة بأن أوكرانيا لن تعود كما كانت، وأن الكلمة العليا في مسار التسوية ستظل لموسكو.