ثمّة هاجس ينمو باطّراد في أوساط قادة الاتحاد الأوروبي ألا وهو تخلّي الرئيس الأميركي دونالد ترامب تماماً عن أوكرانيا، وإعلان خروجه من الصراع ولامبالاته التامة إزاء تطوّراته وتحوّراته، بما يضع كييف أمام تحدّيات وخيارات كارثيّة، ولا سيما في ظل مواصلة القوات المسلحة الروسية تسجيل تقدّم ميداني يومي على الجبهات في الشرق. وفي تقرير نشرته منذ أيام، أشارت صحيفة “غارديان” البريطانية إلى ارتفاع قلق القادة الأوروبيين من خروج ترامب من الصراع في أوكرانيا لصالح إبرام شراكة استراتيجية مع روسيا.
“ليست مشكلتي”
على الصعيد الميداني، تشير التقارير الإعلامية والعسكرية إلى أن روسيا صارت تسيطر بشكل شبه تام على لوغانسك، ما خلا جيوب هامشية لا يُعتد بها، فضلاً عن سيطرتها على أكثر من 70% من دونتيسك ومقاطعتي زابورجيا وخيرسون، وتقدمها في إقليم دنيبرو بتروفيسك.
والحال أنَّ الهواجس الأوروبية تستند إلى مؤشّرات حيوية تُبيّن أن همّ ترامب يتركّز على إبرام صفقة تنهي الصراع في أوكرانيا يمكن له أن يطرحها أمام الرأي العام الأميركي، والعالمي من خلفه، على أنها تشكّل انتصاراً سياسياً شخصياً له، من دون الالتفات إلى الشروط التي تطرحها كييف بالرغم من تسجيلها بعض المرونة في هذا الصدد.
بحسب التقارير والتسريبات الإعلامية، عبّر ترامب عن هذه اللامبالاة خلال محادثة أجراها مع الرئيس الأوكراني المنتهية ولايته فولوديمير زيلينسكي وقادة أوروبيين بارزين، من خلال إصراره على ضرورة إيجاد موسكو وكييف حلاً للصراع بنفسيهما، وقوله بوضوح: “ليست مشكلتي”.
هذا الموقف أربك شركاء كييف الأوروبيين ووضعهم تحت ضغط شديد، وعزّز المؤشرات الصادرة عن واشنطن بعدم انضمامها إلى رزمة العقوبات الجديدة على موسكو، والتي تعتزم بروكسل إقرارها، ممّا يفقدها الكثير من الفعالية ويجعل تأثيرها محدوداً للغاية. أحدث هذه المؤشّرات يتمثل في الاتصال الهاتفي الذي أجراه ترامب مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في 19 أيار (مايو) الجاري واستمر لنحو ساعتين، بحسب وسائل الإعلام الغربية.
تدقيق في المساعدات الأميركية
يُضاف إلى ذلك تعهّد وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، خلال إحاطة له أمام الكونغرس، بإجراء تدقيق شامل لجميع المساعدات التي قدّمتها واشنطن ولا تزال إلى أوكرانيا. وبالرغم من أن إدارة الرئيس الأسبق جو بايدن كانت تجري تدقيقاً دورياً بهذه المساعدات، إلا أنه كان يتّسم عموماً بطابع شكلي، بهدف إظهار نوع من الشفافية أمام دافعي الضرائب، من دون المضي قدماً في تدقيق صارم يفضح الفساد الذي طال هذه المساعدات.
ليس تفصيلاً أبداً أن تظهر صواريخ “جافلين” الأميركية المضادة للدبابات في كولومبيا، وخصوصاً في أوساط كارتيلات المخدرات ذات السطوة والنفوذ، لا الأسلحة والصواريخ الأميركية النوعية التي اختفت في أوكرانيا وعادت وظهرت في بؤر الصراع في أفريقيا والشرق الأوسط. وبالتالي فإن التدقيق الذي تعتزم تنفيذه إدارة ترامب يصبح أداة للضغط السياسي تُطيح بمرتكزات إدارة سلفه وخوضها حرباً بالوكالة مع روسيا عبر القوّات الأوكرانية ومجموعات ضخمة من المرتزقة الذين جرى تجنيدهم والإتيان بهم من بقاع مختلفة.
نتائج هذا التدقيق يمكن أن تصبح سلاحاً قوياً في يد إدارة ترامب يُوظَّف لزيادة مأزق الديموقراطيين قبل انتخابات الكونغرس النصفية، وفي الوقت عينه يُستثمر كأداة ضغط إضافية على زيلينسكي من أجل الانصياع لواشنطن وفكّ الارتباط تدريجاً مع بروكسل.
شراكة استراتيجية مع روسيا
يبدو أن أميركا لم تعد تُبالي بأوكرانيا ولا بالفرص الاستثمارية المتاحة فيها بعد حصولها على اتفاقية الموارد الثمينة، وتعمل على توظيف أدوات الضغط من أجل تمهيد الأرضية لخفض تدريجي للتصعيد يؤدّي في النهاية إلى تسوية للصراع، إنما بحسب الشروط الروسية. وهذا ما يخشاه الحلفاء في أوروبا وحلف شمال الأطلسي “الناتو”.
أما السيناريو الكابوسي بالنسبة إلى بروكسل والذي كشفت عنه التسريبات الإعلامية فهو أن خروج أميركا من الصراع يُضمر احتمالية مرتفعة لإبرام ترامب شراكة استراتيجية مع روسيا، وهو أمر يتّسق مع نهج الرئيس الأميركي الباحث عن صفقات تعود عليه بمكاسب كبرى على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية.
ومع أنه لوّح في مواقفه في الأيام الأخيرة بإمكانية فرض عقوبات على موسكو، إلا أن ذلك لا يخرج عن إطار المناورات السياسية وأدوات الضغط من أجل هذه الصفقة الاستراتيجية، وليس من أجل أوكرانيا التي يعتبرها مسألة أوروبية – روسية.
يبدي القادة الأوروبيون قلقاً عارماً في اجتماعاتهم المتواترة أخيراً من أن العوائد المتأتية من الصفقة الاستراتيجية الأميركية – الروسية ستقود واشنطن إلى توظيف نفوذها في نهاية المطاف من أجل تسوية الصراع بحسب شروط بوتين، خصوصاً في ظل الهدوء الذي تُظهره موسكو وارتياحها إلى مسار تطوّر العلاقات الثنائية مع أميركا.
تدعم روسيا صفقة ترامب وتريد منحه ما يعينه على إبرامها من دون المساس أو التضحية بمصالحها الأساسية أو تقديم تنازلات لا ترى داعياً لها، من أجل الوصول في نهاية المطاف إلى صفقة وفق معادلة “رابح – رابح” مع أميركا، لكنها بالتأكيد ستكون على حساب الاتحاد الأوروبي الذي سيكون الخاسر الأكبر، ومن خلفه “الناتو” الذي يهتزّ على وقع الضربات الترامبية.