يبدو أنّ ثمة ملامح لـ”شراكة استراتيجية” تتشكّل بين إقليم كردستان العراق والولايات المتحدة، خلف أبواب الخطاب الديبلوماسي الهادىء . شراكة تُبنى لبنةً، لبنة، على إرث مديد من التعاون الأمني والسياسي، وتتطوّر إلى ما يشبه “التحالف الوظيفيّ” ذات طيف أوسع يشمل: الاقتصاد، والطاقة، ويصل إلى حدود إعادة رسم ملامح الاستقرار في العراق وسوريا.
زيارة وفد كردي رفيع المستوى إلى واشنطن قبل أسابيع، ثم ما تبعها من اتصال بين وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو ورئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني، ليستا تفصيلًا بروتوكولياً بسيطاً. وإنما إشارتان واضحتان إلى أنّ واشنطن، لم تتخلّ عن حلفائها في ظل انسحاباتها المتكرّرة من منطقة الشرق الأوسط.
الرسالة التي حملها روبيو إلى بارزاني خلال الاتصال، كانت حاسمة: “دعم الولايات المتحدة لإقليم كردستان سيظل ركيزة أساسية في العلاقة مع العراق”. رسالة تنطوي على ما هو أبعد من التأكيد على مسألة الدعم. إنّها تثبيت لشرعية الإقليم كـ”لاعب مستقلّ” وكذلك “مؤثّر”، في ظلّ “عراق” تتقاذفه التجاذبات الإقليمية والداخلية.
هذا التنسيق المستجدّ ليس وليد صدفة أو ظرفاً طارئاً، بل تطوّر طبيعيّ لمسار طويل جداً من التعاون العسكري وحتى الاقتصادي. فمنذ سقوط نظام صدام حسين في العراق العام 2003، شكّلت كردستان “منصّة” انطلاق آمنة للعمليات الأميركية، وممراً خلفياً للسياسات الغربية في مواجهة التمدّد الإيراني.
وفي السنوات الأخيرة كذلك، تحوّلت أربيل إلى “مركز جذب” للشركات الأميركية، ولا سيما تلك العاملة في قطاع الطاقة. وهو ما عبّر عنه روبيو في قوله: “الشراكات الاقتصادية مع الشركات الأميركية تفيد الشعبين الأميركي والعراقي”ّ.
لكن ما يلفت الانتباه أكثر، هو إدراك واشنطن لأهمية الحفاظ على الكيان الدستوري للإقليم، وسط الضغوط المتزايدة التي يتعرّض لها من الحكومة المركزية في بغداد. فخلال اجتماع مجلس وزراء الإقليم لعرض نتائج زيارة الوفد إلى واشنطن، شدّد رئيس الحكومة مسرور بارزاني على أنّ الولايات المتحدة جدّدت التزامها بدعم النظام الدستوري في كردستان، وحقوقه وصلاحياته ضمن الدستور العراقي. ولعلّ هذا تأكيد على أنّ المسألة الكردية لم تعد شأناً داخليًا عراقيًا فحسب، بل باتت جزءًا من ميزان القوى الإقليمي، الذي تحاول واشنطن تثبيته في وجه مشاريع الهيمنة المشرقية.
كما لا يمكن فصل هذا التحرّك عن السياق الإقليمي الأوسع. فإقليم كردستان يلعب دوراً محورياً في استضافة النازحين واللاجئين، وكذلك في حماية التنوّع القومي والديني، في وقت تنهار فيه منظومات الحماية المدنية في مناطق عديدة من الشرق الأوسط وحتى في أوروبا. فبحسب أرقام المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR)، فإنّ الإقليم يستضيف أكثر من 930 ألف لاجئ ونازح داخلي، وهو رقم يتجاوز قدرات الاقليم الاقتصادية، ويؤكد في الوقت نفسه مسؤولية المجتمع الدولي تجاهه.
إضافة إلى البعد الإنساني، فإنّ كردستان تُعدّ اليوم “ساحة” واعدة للاستثمارات الأميركية في قطاعي النفط والغاز. وتزامناً مع مساعي بغداد لاستعادة تصدير نفط الإقليم عبر شركة “سومو”، يشكّل التنسيق بين أربيل وواشنطن رافعة اقتصادية محتملة، لا تقتصر على الاستفادة من الموارد، بل تتجاوزها إلى ضمان توزيع عادل للعائدات، بما يخفّف من حدّة النزاعات الدستورية المتكرّرة حول الحصص المالية.
حكومة الإقليم تقدّر أن توقّف تصدير النفط منذ آذار 2023 كلّف الخزينة العراقية ما يزيد على 6 مليارات دولار، وهو ما يجعل استئناف التصدير بنداً اقتصادياً وسياسياً ملحاً.
في الخلفية، تبرز أيضاً أهمية الدور الكردي في ضبط الاستقرار الحدودي في شمال العراق، ولا سيما في ظل تهديدات تنظيم “داعش” وخلايا الميليشيات الخارجة عن سلطة الدولة. وبحسب تقرير صادر عن “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” في أيار (مايو) 2024، فإنّ قوات “البيشمركة” الكردية لعبت دوراً حاسماً بدعم الجيش العراقي في أكثر من 50 عملية أمنية ضد “داعش” خلال الأشهر الـ12 الماضية، خصوصاً في المناطق المتنازع عليها، وهو ما يعزّز من أهمية التنسيق الأمني المستمر مع البنتاغون.
وعليه، فإنّ تحرّك الولايات المتحدة نحو تثبيت شراكتها مع إقليم كردستان لا يأتي فقط من موقع “الدعم التقليدي”، بل يعكس تحوّلاً في رؤية واشنطن لطبيعة التحالفات المحلية. فالإقليم بات في نظرها، “ركيزة استقرار”، و”مركز توازن” في منطقة تتلاشى فيها ملامح السيادة التقليدية.
ومن هنا، يبدو واضحاً أنّ مستقبل العلاقة بين أربيل وواشنطن مرشّح لمزيد من الترسيخ، خصوصاً مع تسارع الترتيبات الإقليمية، وتبدل أولويات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.