لم يكن ارتفاع سعر السيجار الكوبي خلال العامين الماضيين ناتجًا عن موجة تضخم عالمية فحسب. ما جرى في سوق السيجار العالمية أشبه بإعادة رسمٍ لخارطة القوة في صناعةٍ لطالما كانت “رمزية” أكثر منها “تجارية”. خلف كل سيجار يُشعل اليوم، هناك شبكة معقّدة من الاستحواذات، التسعير الموحد، والمضاربات الطبقية، التي جعلت من هذا المنتج الشعبي في الماضي، سلعةً محض نخبوية.
البداية كانت من كوبا، حيث هزّ العام 2020 توازن صناعة عمرها أكثر من قرن. شركة “Imperial Brands” البريطانية، التي كانت تملك نصف شركة “Habanos S.A” الكوبية، التي تحتكر توزيع وتسويق السيجار الكوبي حول العالم، قرّرت بيع حصتها لمجموعة “Allied Cigar Corporation” المسجّلة في هونغ كونغ مقابل أكثر من 1 مليار دولار.
الصفقة لم تكن “شراءً صينيًا” بالمعنى السياسي، لكنّها نقلت مركز النفوذ من القارة الأوروبية إلى آسيا، وتحديدًا إلى أيدي رجال أعمال يملكون علاقات وثيقة بالسوق الصينية… ومنذ تلك اللحظة، بدأ التحوّل في هيكل الأسعار.
الصين اليوم ليست فقط أكبر مستورد للسيجار الكوبي، بل أكبر سوق من حيث القيمة. نحو 27 % من مبيعات “Habanos” تأتي من السوق الصينية وحدها، في وقت تراجع فيه الطلب الأوروبي بسبب الضرائب وقيود التدخين والأزمة الاقتصادية. هذا الثقل الاقتصادي الجديد دفع الشركة صوب اعتماد تسعير عالمي موحد يربط أسعار أوروبا وآسيا بدافع الحفاظ على سُمعة السيجار الكوبي. فبدلًا من أن يكون السيجار أرخص في مدريد وأغلى في هونغ كونغ، بات السعر واحدًا تقريبًا، ما يعني ارتفاعًا تراوح بين 30 و50 % في معظم الأسواق خلال عامين فقط.
من زاوية اقتصادية، ما فعلته “Habanos” هو تطبيق نموذج “التسعير المرجعي الفاخر”: عندما يرتفع الطلب في سوق ذات قدرة شرائية عالية (الصين، الخليج، سنغافورة)، تُرفع الأسعار عالميًا للحفاظ على صورة المنتج الفاخر. هذه السياسة لا تراعي متوسط الدخل أو مرونة الطلب في باقي الأسواق، بل تركّز على تعزيز مكانة السيجار كسلعة نادرة لا تُشترى إلاّ ممن يملك فائضًا ماليًا أو رمزًا اجتماعيًا يريد تثبيته.
لكن العوامل ليست تسويقية فقط. فخلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، واجهت كوبا سلسلة من الكوارث الطبيعية التي دمّرت حقول التبغ في إقليم بينار ديل ريو، المصدر الأول لأوراق السيجار الممتازة. الأعاصير، ندرة الأسمدة، وارتفاع كلفة الطاقة جعلت الإنتاج الكوبي يتراجع بنحو 20 %، ما دفع الشركات إلى رفع الأسعار أيضًا من أجل تعويض الخسارة الناتجة عن تراجع الكميات المنتَجة. ومع دخول السوق الصينية بقوة، وازدياد الطلب في الشرق الأوسط بعد الجائحة، أصبح العرض العالمي لا يكفي لتغطية الطلب النوعي على العلامات الفاخرة مثل “Cohiba” و”Trinidad” و”Partagas” وغيرها…
إلى جانب ذلك، زادت تكاليف النقل والتأمين والشحن بعد أزمة سلاسل الإمداد العالمية نتيجة جائحة كورونا ثم الحرب الأوكرانية الروسية، فارتفعت الكلفة النهائية على الموزعين. في الاقتصاد، عندما تلتقي الندرة بارتفاع الكلفة وبسياسات تسعير احتكارية، تكون النتيجة ارتفاعًا متسارعًا في الأسعار يصعب تصحيحه لاحقًا.
اللافت أنّ هذا الارتفاع لم يحدّ من الطلب العالمي، بل على العكس زاد من جاذبية المنتج. في الأسواق الفاخرة، السعر المرتفع يُفسَّر كإشارة جودة، فيُشتَرى السيجار كرمز للترف لا كسلعة استهلاكية. الشركات تستثمر هذا الميل النفسي، وتحوّل التضخم إلى فرصة ربح. والنتيجة أن السيجار أصبح أقرب إلى منتج استثماري منه إلى ترفٍ شخصي — يُخزَّن، يُعاد بيعه، وتُنظَّم مزادات حوله تمامًا كما يُفعل مع النبيذ النادر أو الساعات السويسرية.
أما “الاستحواذ الآسيوي” على “Habanos” فله بُعد أبعد من التجارة. فالصين التي تشتري اليوم الأراضي الزراعية في أفريقيا والموانئ في أوروبا، دخلت أيضًا قطاع السلع الفاخرة لتتحكم بسوق رمزية تُعبّر عن مكانة الطبقة العليا في الغرب. السيطرة على تسويق السيجار الكوبي ليست صفقة مالية فقط، بل خطوة في مشروع توسّع اقتصادي ثقافي يغيّر رموز الرفاه نفسها. لم تعد الفخامة حكرًا على باريس أو لندن، بل صارت تُدار من شنغهاي وهونغ كونغ.
هكذا يمكن قراءة ارتفاع سعر السيجار في ضوء تحوّل عالمي: انتقال مركز الطلب من الغرب إلى الشرق، وتمركز القرار التجاري في أيدي مجموعات آسيوية تمتلك سيولة هائلة واستراتيجية طويلة الأمد. ومع تقلّص الإنتاج الكوبي بسبب المناخ والعقوبات، سيبقى السعر في اتجاه تصاعدي ما لم تتدخل دول أخرى، مثل الدومينيكان ونيكاراغوا وهندوراس لتملأ الفراغ في السوق (بدأت تفعل ذلك وأصنافها الرخيصة ترتفع متأثرة بأزمة السيجار الكوبي).
النتيجة النهائية بسيطة ومقلقة في آنٍ معًا: السيجار الذي كان يومًا رمزًا لجزيرة كوبا، أصبح”مرآة” للعولمة الاقتصادية الجديدة. كل سيجار يُشعل اليوم يحمل بصمة آسيوية وسعرًا عالميًا… ومزاجًا اقتصاديًا يقول إنّ زمن الرفاه في أوروبا انتهى، وإن الدخان الفاخر صار يُلفّ بأصابع صينية.