يُختصر المشهد اللبناني، منذ أمس، بعنوان واحد: معركة “حصرية السلاح”. هذا السلاح انتقل رسميًا إلى طاولة الحكومة، فيما يطلّ الجيش بخطة متدرّجة، ويواصل ثنائي “حزب الله” و”حركة أمل” التصعيد الكلامي مع قرارٍ بالمشاركة من دون توفير غطاء للتصويت. ما بدا “تفصيلًا إجرائيًا” في ملحق جدول الأعمال تحوّل إلى لحظة اختبار لثلاثة أمور في آن: تماسك الحكومة، قدرة المؤسسة العسكرية على إدارة ملف وجودي من دون انجرارٍ إلى صدام أهلي، وحجم المظلّة السياسية ـ الدينية التي تُمنح لمبدأ احتكار الدولة للسلاح.
رئيس الحكومة نواف سلام أدّى قسطه من “المرونة التكتيكية”: أضاف بنودًا ملحّة إلى جدول أعمال مجلس الوزراء الذي يُقد الجمعة، لإتاحة مشاركة الوزراء الشيعة، ثبّت الإطار المرجعي لقرارات 5 و7 آب، والبيان الوزاري وخطاب القسم الرئاسي، وأرسل إشارات إلى أنّ النقاش “سياسي” قبل أن يكون “تقنيًا”.
مقابل ذلك، رفع “حزب الله” السقف: تخوين للحكومة واتهامها بالانصياع لإملاءات خارجية، والتلويح بأن أيّ خطوة أحادية تعدّ “خطيئة” وتهدّد الاستقرار. الرسالة مزدوجة: لا تنازل عن المبدأ، لكن لا مقاطعة شاملة للجلسة ما دامت محصورة بالاستماع لعرض قائد الجيش من دون التزام التصويت. بذلك، يتجنّب “الثنائي” فخّ الظهور بموقع المصادِم المباشر للمؤسسة العسكرية، ويحتفظ بحقّ تعطيل “القرار التنفيذي” في ما بعد.
في الخلفية، تتبدّل خرائط التواصل. لا قنوات مفتوحة بين بعبدا و”حزب الله”، واتصالات بالواسطة بين الرئاستين الأولى والثانية، فيما يموضع سلام نفسه على خط “توافق دولي وعربي” مزعوم.
المثير أن المشهد الديني تقدّم خطوة: دار الفتوى تقولها بوضوح “لا دولة فيها جيشان”، والبطريركية المارونية تلتقط الفرصة للتشديد على استعادة السيادة والتوحّد حول المؤسسات. هذه المظلّة الروحية ليست تفصيلًا؛ فهي توفّر للحكومة والجيش “شرعية معيارية” في لحظة يحتاجان فيها إلى خطابٍ جامع يتجاوز الاصطفاف التقليدي.
أما الجيش، فدخل إلى المنطقة الرمادية التي يجيد الوقوف فيها عندما تتزاحم الحسابات السياسية. الخطة التي سيعرضها قائد الجيش رودولف هيكل متدرّجة، مرحلية، تربط التنفيذ بتوافر القرار السياسي والإمكانات البشرية واللوجستية. لا مهل مضغوطة، ولا وعد بجهوزية فورية؛ بل مقاربة “الخطوة مقابل خطوة” مع إسرائيل، تبدأ من الجنوب حيث يسجَّل انخفاض ملموس في المظاهر المسلحة جنوب الليطاني بفعل التفاهمات السابقة، مع التمسّك بخط أحمر: عدم الانجرار إلى حرب داخلية، وإدارة الملف بمزيج من الانضباط والصبر، ريثما تنضج التسويات.
مؤدى ذلك أنّ “تحديد أماكن السلاح” ليس عقدة تقنية بقدر ما هو عقدة قرارٍ سياسي عن كيفية الدخول ومنع الاحتكاك مع المدنيين إذا قرّر الحزب اعتماد تكتيك “الدرع الاجتماعي” (نساء وأطفال) لإحراج الجيش.
الضغط الخارجي حاضر، لكنه ملتبس الاتجاه: وفد أميركي سياسي-عسكري يصل نهاية الأسبوع لاستطلاع الخطة ودفعها قُدمًا؛ واشنطن تلوّح بـ”الدعم مقابل التنفيذ”، فيما القناة الإسرائيلية تشترط سحب السلاح قبل أي نقاشٍ بانسحاب أو ترتيبات ميدانية. هذا الاشتباك بين مطلبَي “الأمن أولًا” و”السيادة أولًا” يضاعف كلفة القرار على بيروت: أي تسريع بلا غطاء إجماعي قد يشظّي الحكومة ويستدعي الشارع، وأي تباطؤ بلا مسار تفاوضي واضح يفرغ القرار من مضمونه ويعيدنا إلى “إدارة الأزمة” بدل حلّها.
من خارج الملف الأمني، تصعد إشاراتٌ تُضعف قدرة الدولة على تحمّل عبء التنفيذ. مشروع موازنة 2026 جاء “كأنّ الحرب لم تقع”: أرقام تُشبه موازنة 2025 مع تخصيص هزيل لإعادة الإعمار، على رغم تقديرات أضرار مليارية. دولةٌ تُوكِل التعويضات إلى مانحين افتراضيين هي دولةٌ لا تملك هوامش لوجستية ومالية لعملية معقّدة مثل حصر السلاح. كيف ستؤمِّن آلاف العناصر والتجهيزات والتدريب الخاص ومقتضيات الانتشار الطويل من دون اعتماداتٍ جدّية؟ وكيف ستقايض الخارج على تمويلٍ مشروط إذا كانت الخريطة السياسية الداخلية متصدّعة؟
إلى السياسة الانتخابية في بيروت، حيث “خبصة” لوائح ومرشحين، وعودة محتملة لوجوه “زرقاء” (تيارالمستقبل) بغطاء متفاوت. هذا التشتت السنّي والإسلامي المدني، مع تناثر مبادرات “المجتمع المدني”، يعني ببساطة أنّ الحكومة ورئيسها لا يملكان ماكينة سياسية متماسكة يمكن أن تتحوّل إلى رافعة شعبية لخيار احتكار السلاح. كلما ازدادت البانوراما تشظّيًا، تراجعت قدرة أيّ سلطة تنفيذية على اتخاذ قرارات صلبة، وكلما ازداد الحشد اللائحي، انخفضت احتمالات إنتاج كتلةٍ نيابية واضحة تتبنّى ما بدأته الحكومة.
الإقليم يزيد تعقيد المعادلة. إسرائيل تمضي في مشروع “تقزيم الكيانات” عبر مناطق عازلة وفرض وقائع ميدانية، وتختبر في سوريا ولبنان حدود النفوذ الأميركي والتركي. أنقرة بدورها تعيد تموضعها بين الردع والدبلوماسية، وتتعامل مع الملف الكردي كمدخلٍ لمقايضة أمنية مع تل أبيب وحلفائها. في مثل هذا المشهد، أي انزلاق داخلي لبناني يمنح “القبضة” الإسرائيلية حجّة أوسع، وأي استعجال بلا توازنات يفتح الباب أمام ترتيباتٍ دولية لا تكون فيها اليد العليا للدولة اللبنانية ولا لجيشها.
الخلاصة أنّ “حصرية السلاح” لم تعد شعارًا بل نقطة تقاطع لكل خطوط التوتر. الحكومة تريد تثبيت قرارها من دون تفجير الجلسة. “الثنائي” يشارك كي لا يبدو معاديًا للجيش، لكنّه يرفض منحه التفويض التنفيذي. الجيش يقدّم خطة قابلة للحياة فقط إذا توافرت لها ثلاثة شروط: إجماع سياسي واضح يمنع التسييس في الميدان، تمويل وتسليح وتدريب واقعي غير مشروط بإملاءات تمسّ السيادة، و”قناة أمان” اجتماعية وإعلامية تكسر احتمالات استدراج المؤسسة إلى صدام مع المدنيين.
من دون ذلك، سيمضي لبنان إلى تسوية تُميِّع القرار وتحوّله إلى “برنامج نوايا”، أو إلى تدويلٍ أعلى كلفةً وأقلّ تحكّمًا. اللحظة الآن هي لحظة صياغة معادلة لبنانية خالصة: دولة لا تُساوم على سيادتها، ولا تُغامر بسلامها الأهلي، وجيشٌ يقود ببرودة أعصاب وواقعية ميدانية، لا بسذاجةٍ ولا باندفاعٍ أعمى.