في قلب الشمال السوري، تُخاض معركة أكبر من صراع السلطة. صراع داخلي داخل “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، بين جناحين متعاكسين في رؤيتهم نحو العلاقة مع حكومة الرئيس السوري الموقت أحمد الشرع.
تياران يختلفان ليس فقط في الخطاب، بل في الأرض والسياسات والولاءات الإقليمية:
– التيار الأول، بقيادة مظلوم عبدي: يرفع صوت “السلام التوافقي”. ويدعو إلى إدماج “قسد” ضمن الهياكل الرسمية للدولة، شرط الحفاظ على الحقوق الكردية، وحكم ذاتي ضمن إطار سياسي شامل يتوافق مع الرؤية السورية، التركية، وإقليم كردستان العراق. هذا الخطاب لا يزال محافظًا وديبلوماسيًا، يحاول تأمين مكتسبات الأكراد عبر تفاهمات لا قتال بها. ويشكل هذا التيار الوجه الإعلامي والسياسي لـ”قسد”، برغم أن قبضته على الأرض باتت أضعف من الجناح الآخر.
– التيار الثاني، هو الأكثر تأثيرًا عمليًا، وتتزعّمه قيادات تابعة لما يُعرف بـ”أكراد قنديل”، بالإضافة إلى عناصر كردية – علوية أو كردية شيعية – تُدار من العراق وإيران وتموّل من أوروبا، بحيث يتلقّى هذا التيار بحسب المعلومات، دعماً من فروع حزب العمال الكردستاني PKK في ألمانيا وهولندا. هؤلاء رفضوا وثيقة أوجلان التي تدعو للتخلي عن السلاح والانخراط السياسي السلمي، وبدلاً من ذلك يسعون إلى تصعيد المواجهة مع دمشق وتركيا، مستعدين لاستخدام القوة أو التمكين العسكري المباشر.
هذا التيار المتشدد يهيمن فعليًا على القيادة الحقيقية لـ”قسد”. يوزّع العرب السنّة أو عرب الجوار في الصفوف الأمامية للقتال (للتخلص منهم)، بينما يُبقي العناصر العلوية والكردية داخل خطوط الدعم، يتحكّم بالمستودعات والأسلحة والأنفاق. وحتى التجنيد ضمن مناطق مثل جبل سنجار، يجرى بتوجيهات هذا الفريق، مع عناصر مدعومة من “الحشد الشعبي” في العراق المدعوم من طهران.
برغم توقيع مظلوم عبدي اتفاقاً مع أحمد الشرع في شهر آذار (مارس) الماضي لدمج قوات “قسد” في مؤسسات الدولة – بما يشمل المطارات والنفط والحدود – إلاّ أنّ الاتفاق ظلّ حبراً على ورق، في ظل تمرّد جناح الميدان على جناح السياسة. الاتفاق لم يحسم ما إذا كانت “قسد” ستنخرط كوحدة عسكرية متكاملة أم ستفكك وتُدمج أفرادها، وهي نقطة خلافية لا تزال تُفجّر الداخل.
في الأسابيع الأخيرة، بدأت مؤشّرات التصعيد تظهر بشكل ميداني. اشتباكات في محيط منبج، واستهداف متبادل بالصواريخ بين القوات الحكومية ومواقع “قسد”. كل طرف يتّهم الآخر بالتصعيد. التوقعات تشير إلى أنّ الجبهة في حال فُتحت فستكون من الشمال وليس شرقاً كما كان منتظراً.
أما السبب؟ فيعود إلى هيمنة متشددين علويين أكراد على قيادة “قسد” في حلب، واستعدادهم لصدام مباشر، بعكس التيار الشرقي الذي لا يزال يميل إلى التهدئة.
على الجانب التركي، الموقف واضح: لا قبول لأيّ كيان كردي مستقل أو حتى ذاتي الحكم على حدودها. أنقرة تمارس ضغطاً سياسياً وعسكرياً، وتترقب لحظة الانقضاض، سواء عبر غطاء دولي أو عمليات خاطفة محدّدة. في المقابل، إيران تجد في الجناح المتشدد داخل “قسد” فرصة لابتزاز حكومة الشرع، ومنع أي تقارب فعلي بين دمشق وأنقرة.
أما أوروبا، فيبدو أنها تغض النظر عن تمويل غير شرعي يصل من عصابات كردية في ألمانيا وهولندا، ليموّل جناح الميدان على حساب مسار التسوية.
في العمق، الصراع لم يعد بين “قسد” والدولة فقط، بل بات صراعًا داخل “قسد” نفسها. قيادة مزدوجة، قرار منقسم، وانفصام كامل بين اللغة الرسمية والميدانية. فمظلوم عبدي، الذي وقّع على الدمج، لا يسيطر فعلياً على المستودعات أو الخطط أو حتى الولاءات الداخلية. الطرف الآخر يدير الأرض، ويبني ما يشبه “جيش ظل” خاص، يتغلغل في المفاصل الحساسة، ويُقصي تدريجياً العناصر العربية التي لا يثق بها.
المفارقة أنّ هذا الجناح نفسه هو من سيُعلن غداً – إذا ما تدخّلت تركيا برياً – أن الدعوة لنزع السلاح كانت وهماً (دعوة اوجلان)، وأن العودة إليه باتت حتمية. ومن هذه النقطة، يبدأ السيناريو الأخطر: تحوّل الشمال السوري إلى ساحة حرب جديدة، لا تكون بين دولتين، بل بين فريق يرفع علم الدولة، وآخر يلبس زيّها دون أن ينتمي إليها… وقد يتمدّد النزاع ليطال الإقليم كلّه.
العد التنازلي بدأ. فإما أن تُحسم مسألة القيادة داخل “قسد” لصالح فريق التسوية الذي تدعمه الولايات المتحدة وتركيا، أو يتحوّل الجيش الجديد الذي يعمل الشرع على بنائه إلى جيش بلا شمال يدعو إلى الانفصال بدعم خفي من طهران ومن خلفها.