في حزيران (يونيو) 2025، تلقّت إيران الضربة الأكثر خطورة منذ بدء برنامجها النووي قبل أكثر من أربعة عقود. فبعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، عادت نغمة “الضغط الأقصى” تتصدّر الخطاب الأميركي، لكن هذه المرة كانت أكثر وضوحًا وعدوانية، ومشفوعة بخطوات عسكرية مباشرة بالتنسيق مع إسرائيل.
ترامب، الذي لم يخفِ يومًا كراهيته للاتفاق النووي الذي وقّعته إدارة أوباما، لم ينتظر طويلًا بعد تنصيبه حتى أعلن استراتيجية جديدة تحت عنوان “الردع الحاسم”، تتلخّص بإجبار إيران على التخلّي عن قدراتها النووية تحت التهديد بالقوة.
في البداية، بدا كأن واشنطن ستحاول إعادة إيران إلى طاولة المفاوضات تحت ضغط العقوبات فقط. لكن طهران، التي تعلّمت من التجربة السابقة، لم تُبدِ أي استعداد للعودة إلى مفاوضات غير مضمونة النتائج، وكرّرت مرارًا أنها لن تقبل بأيّ حوار ما لم يُرفع عنها عبء العقوبات كاملاً، وتُقدَّم ضمانات بعدم انسحاب الولايات المتحدة مجدّدًا من أيّ اتفاق. في المقابل، كانت إسرائيل تدفع في اتجاه مختلف، محذّرة من أنّ إيران باتت على بعد أسابيع فقط من إنتاج يورانيوم مخصّب بدرجة عسكرية، وهو ما يعني أنّ القنبلة باتت، في نظرها، مسألة قرار لا أكثر.
في 13 حزيران، نفّذت إسرائيل عملية واسعة النطاق ضد أكثر من 100 موقع في إيران، في ما وصفته بأنّه “ضربة استباقية وقائية”، استهدفت منشآت نطنز وفوردو وأراك وأصفهان. هذه العملية لم تكن الأولى في سجل التوترات الإسرائيلية–الإيرانية، لكنها الأوسع من حيث النطاق والأكثر تطورًا من حيث الذخائر المستخدمة، إذ شملت قنابل خارقة للتحصينات وصواريخ دقيقة التوجيه.
بعد أسبوع واحد فقط، دخلت الولايات المتحدة مباشرة على خط النار، فقصفت بدورها أهدافًا نووية وعسكرية تحت عنوان “عملية المطرقة منتصف الليل”، معلنة أنّها “أزالت التهديد الإيراني لسنوات مقبلة”. ترامب خرج بنفسه ليخاطب العالم، مؤكدًا أنّ بلاده “لن تسمح أبدًا لإيران بامتلاك السلاح النووي”، وأنّ هذه الضربات هي مجرّد رسالة أولى، يمكن أن تتبعها رسائل أشدّ إذا استمرّت إيران في مسارها التصعيدي.
ردّ إيران لم يتأخر، وإن لم يكن بحجم الضربة. فقد أطلقت بضعة صواريخ على قواعد أميركية في الخليج، وتوعّدت بالرّد في “الزمان والمكان المناسبين”. كما أعلنت عن وقف كل أشكال التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومنعت المفتشين من دخول المواقع المستهدفة، ما أثار قلقًا واسعًا في الأوساط الدولية. لكن في الداخل، بدا أن النظام الإيراني اختار تبنّي رواية “العدوان”، لإعادة لملمة الصفوف وتوحيد الجبهة الداخلية، خصوصًا بعدما أدّت العقوبات والاضطرابات الاقتصادية إلى اهتزاز ثقة الشارع بالسلطة في طهران.
التحليلات الغربية، وخصوصًا من وكالة الطاقة الذرية، أشارت إلى أنّ الضربات ألحقت ضررًا كبيرًا بالمنشآت، وأوقفت عمليات التخصيب في نطنز، وفوردو بشكل موقت. لكنها في الوقت نفسه لم تدمّر البنية التحتية العلمية ولا مخزون إيران من اليورانيوم المخصّب، ما يعني أن طهران قد تكون قادرة على استئناف برنامجها خلال أشهر، لا سنوات. وهكذا، تحوّلت الضربة من محاولة “نزع سلاح” إلى مجرّد تأجيل زمني لمشكلة أعمق، في ظل تصميم واضح من الإيرانيين على مواصلة طريقهم، إن لم يكن نحو السلاح، فعلى الأقل نحو امتلاك القدرة الكاملة عليه.
اللافت كان الانقسام بين واشنطن وتل أبيب بعد تنفيذ الضربة. فبينما أرادت إسرائيل استكمال الضغط العسكري وصولًا إلى شلّ النظام الإيراني بالكامل، بدا أنّ إدارة ترامب تميل إلى التلويح بالقوة فقط كوسيلة تفاوض، لا كمسار للحرب المفتوحة. بعض الديبلوماسيين الغربيين وصفوا ما جرى بأنه “فخ تفاوضي بالذخيرة الحيّة”، أي محاولة إقناع إيران بالعودة إلى الاتفاق بشروط أسوأ، ولكن تحت وقع القصف هذه المرة. في المقابل، لا يبدو أن طهران في وارد تقديم التنازلات، لا الآن ولا قريبًا، وهي تروّج داخليًا أن ما حدث مجرد محطة في حرب طويلة مع “الشيطان الأكبر”، لن تنتهي إلا باستقلال تقني كامل عن الغرب.
في الأثناء، تتزايد المخاوف من أن تكون هذه الضربات فتحت الباب أمام سباق تسلّح إقليمي. السعودية، وتركيا، وربما مصر، قد تجد في هذه اللحظة مبررًا لإعادة النظر في سياساتها النووية، سواء لأغراض مدنية أو لأغراض الردع. أمّا روسيا والصين، فقد حافظتا على صمت نسبي، مفضّلتين الاستفادة من الفوضى لتوسيع نفوذهما الاستراتيجي في الشرق الأوسط، من دون الدخول في المواجهة المباشرة.
هكذا، عادت المسألة النووية الإيرانية إلى نقطة الصفر، ولكن على أنقاض مفاعلات تحت وقع الانفجارات. أما مصير الاتفاق النووي، فقد تحوّل من وثيقة تفاوضية إلى “شبح سياسي”، يطارد الجميع، لكنّه لا يسكن أيّ طاولة حتى اللحظة.