مع نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت إيران قطعت شوطًا كبيرًا في برنامجها النووي، لكنها دفعت الثمن باهظًا. العقوبات الدولية بدأت تشلّ قطاعات الاقتصاد الحيوية، لا سيما النظام المصرفي وقطاع الطاقة. الضغط المتصاعد من مجلس الأمن والغرب، مقرونًا بتوسّع عمليات التخريب والاغتيال التي استهدفت العلماء والمنشآت، فرض على طهران خيارًا مرًّا: إمّا الاستمرار في التخصيب تحت النار، أو الدخول في مسار تفاوضي يُخفف الضغط ويضمن “الحق في التخصيب” تحت مظلة قانونية.
في العام 2010، أقرّ مجلس الأمن الدولي القرار الرقم 1929، الذي كان الأكثر صرامة حتى تلك اللحظة. شمل هذا القرار حظرًا على تصدير الأسلحة الثقيلة إلى إيران، وتجميد أصول كيانات مالية مرتبطة بالحرس الثوري، وتضييق الخناق على الاستثمارات الأجنبية في قطاع النفط والغاز. بالتوازي، صعّدت الولايات المتحدة من عقوباتها أحادية الجانب، خصوصًا عبر “قانون تفويض الدفاع الوطني”، الذي استهدف البنك المركزي الإيراني، مما أدى إلى فصل إيران عن النظام المالي العالمي (SWIFT) بحلول العام 2012.
الأثر على الداخل الإيراني كان عميقًا: تضخّم متسارع، تدهور في قيمة العملة، وانخفاض حاد في عائدات النفط. هذه الضغوط غذّت انقسامًا داخل النظام: جناح يرى وجوب الصمود والمواجهة، وآخر يدعو إلى إعادة التموضع الديبلوماسي. انتخابات العام 2013 حملت معها مفاجأة سياسية: فوز حسن روحاني، رجل الدين المعتدل والمفاوض النووي السابق، بالرئاسة، مدعومًا من تيار براغماتي بقيادة الرئيس الأسبق رفسنجاني.
روحاني، الذي خاض حملته على وعد “بكسر العزلة الدولية”، سارع إلى تشكيل فريق تفاوضي جديد بقيادة وزير الخارجية محمد جواد ظريف. ورغم الشكوك العميقة المتبادلة، وافقت إيران والولايات المتحدة على لقاء مباشر في سلطنة عُمان، بوساطة سلطانية هادئة ومثمرة. هذه اللقاءات فتحت الطريق نحو محادثات أوسع مع مجموعة 5+1 (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا)، كان مسرحها الأساسي العاصمة النمساوية فيينا.
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، توصّل الطرفان إلى اتفاق مرحلي عُرف باسم “خطة العمل المشتركة” (Joint Plan of Action)، يقضي بتجميد إيران لبعض أنشطتها النووية الحسّاسة، وتخفيف محدود للعقوبات الغربية. كان هذا الاتفاق بمنزلة اختبار نوايا، سمح ببناء ثقة أولية، رغم التعقيدات التي رافقته، سواء من الداخل الإيراني أو من الكونغرس الأميركي الذي أبدى تحفّظات واضحة.
المفاوضات اللاحقة، التي امتدت لقرابة عامين، كانت مرهقة، وبلغت في مراحل معيّنة حافة الانهيار. تعقّدت بسبب الخلافات التقنية حول نسب التخصيب، عدد أجهزة الطرد المركزي، مصير مفاعل أراك، آلية التفتيش، ووتيرة رفع العقوبات. لكن العامل الفارق كان في الرغبة السياسية لدى الطرفين، مدفوع كلٌّ من زاويته: إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما كانت تبحث عن إنجاز ديبلوماسي خارجي تاريخي، في حين أرادت طهران كسر حلقة الحصار وتثبيت شرعية برنامجها النووي في القانون الدولي.
في 14 تموز (يوليو) 2015، وُقّع الاتفاق النهائي الذي حمل اسم “خطة العمل الشاملة المشتركة” (Joint Comprehensive Plan of Action – JCPOA). نصّ الاتفاق على خفض عدد أجهزة الطرد المركزي بنسبة الثلثين، تقليص مخزون اليورانيوم منخفض التخصيب بنسبة 98%، وتحويل مفاعل أراك ليصبح غير قادر على إنتاج بلوتونيوم ذي استخدام عسكري. مقابل ذلك، التزم الغرب برفع تدريجي للعقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة على إيران، وتجميد مسار العقوبات في مجلس الأمن.
الاتفاق لم يكن مثاليًا. انتقدته إسرائيل بشدّة، واعتبرته “خطأ تاريخيًا” يُبقي إيران على عتبة السلاح النووي. كما أثار امتعاض بعض دول الخليج التي شعرت بأن واشنطن تُعيد تأهيل طهران إقليميًا على حساب توازن القوى التقليدي. في الداخل الإيراني، انقسمت الآراء أيضًا: المحافظون رأوا فيه تنازلًا سياديًا، بينما اعتبره الإصلاحيون “انتصارًا للعقلانية والديبلوماسية”.
لكن، وبغض النظر عن المواقف، مثّل الاتفاق علامة فارقة في تاريخ البرنامج النووي الإيراني، إذ انتقل من موقع “المواجهة الصدامية” إلى “التفاوض التعاقدي”. للمرة الأولى، جلس الأميركيون والإيرانيون على الطاولة كأنداد، في اتفاق صيغ بعناية قانونية واستراتيجية. ومع ذلك، هذا التوازن لم يدم طويلاً.