بُعيد انتصار الثورة الإسلامية في إيران العام 1979، تغيّر وجه الجمهورية بشكل جذري، لا سياسيًا فقط بل تقنيًا واستراتيجيًا أيضًا. واحدة من أوائل ضحايا هذا التحوّل كانت المشاريع النووية التي أطلقها الشاه، والتي كانت على وشك أن تُترجم إلى بنى تحتية كبيرة قادرة على إنتاج الطاقة وربما امتلاك قدرات استراتيجية في المستقبل.
الثورة، التي جاءت على أنقاض نظام ملكي مدعوم من الغرب، لم تنظر بعين الرضا إلى مشروع كان رمزه الأبرز التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا. وكان من الطبيعي، في أجواء القطيعة السياسية والدينية، أن يدخل البرنامج النووي مرحلة سبات طويلة، أو هكذا بدا الأمر في الظاهر.
روح الله الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية، كان يرى أنّ الطاقة النووية لا تنسجم مع حاجات الأمة الإسلامية في تلك المرحلة. وبالفعل، أمر بوقف العمل في أغلب المشاريع، وأُخرج الخبراء الغربيين من البلاد، فيما انسحبت الشركات الأجنبية، وفي مقدمتها شركة “سيمنز” الألمانية، من مشروع بوشهر وهو المفاعل الذي كان من المفترض أن يؤمّن جزءًا كبيرًا من الطاقة الكهربائية لإيران الجنوبية، وتحوّل إلى مبنى إسمنتي مهجور.
لكن مع حلول التسعينيات، بدأت طهران تغيّر موقفها تدريجاً. فالحرب العراقية – الإيرانية، التي امتدّت 8 سنوات (1980–1988) أظهرت للإيرانيين هشاشة بنية الردع لديهم، خصوصًا بعدما استخدم صدام حسين الأسلحة الكيميائية ضدهم من دون أي ردّ دولي جدّي. هذا الشعور بالخذلان عزّز لدى بعض النخب السياسية والعسكرية الإيرانية قناعة بأنّ امتلاك قدرات غير تقليدية – أو على الأقل امتلاك دورة وقود نووي كاملة – أصبح ضرورة استراتيجية.
الرئيس أكبر هاشمي رفسنجاني في حينه، كان أول من أعاد فتح هذا الملف في العلن. وخلال زيارته إلى موسكو في العام 1989، طلب من القيادة السوفياتية التعاون مجدّدًا في إحياء مشروع مفاعل بوشهر. لكن الاتحاد السوفياتي كان في طريقه إلى الانهيار، ولم يتحقّق الكثير من تلك الزيارة. غير أنّ الفرصة سنحت لاحقًا مع صعود روسيا ما بعد الشيوعية، التي كانت أكثر براغماتية في بيع التكنولوجيا مقابل المال.
وبالفعل، في 1995 وقّعت إيران عقدًا مع شركة “روس آتوم” الروسية لإكمال بناء المفاعل. هذه الخطوة كانت أول مؤشّر جدّي على عودة الاهتمام بالملف النووي، ولكن بطابع مختلف: لم تعد إيران تسعى فقط للحصول على الطاقة، بل كانت تتطلّع لاستقلال تقني في إنتاج الوقود النووي.
في تلك الفترة، بدأت إيران أيضًا باستيراد أجهزة طرد مركزي من السوق السوداء الدولية، خصوصًا من باكستان، عبر شبكة عبد القدير خان، العالم النووي الذي باع أسرار التخصيب لكل من: ليبيا وكوريا الشمالية وإيران. حصلت طهران على تصميمات لأنظمة طرد من طراز P-1 وربما P-2 أيضًا، وهو ما شكّل نقطة تحوّل كبيرة في قدرتها على تخصيب اليورانيوم محليًا.
حتى ذلك الحين، كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تراقب البرنامج الإيراني من باب الروتين. فإيران، بوصفها موقّعة على معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT)، كانت تُجري بعض عمليات التفتيش المعلنة، لكنّها لم تكن ملزمة بالكشف عن كل تفاصيل أنشطتها، خصوصًا ما يتعلّق بمواقع لا تحتوي مواد نووية معلنة.
لكنّ اللعبة تغيّرت فجأة العام 2002. ففي ذاك العام، خرجت جماعة “مجاهدي خلق” المعارضة للنظام بكشف علني عن وجود منشأتين نوويتين غير مصرّح بهما: موقع نطنز لتخصيب اليورانيوم، ومفاعل أبحاث في أراك. هذا الإعلان، الذي زعمت الجماعة أنها حصلت عليه من مصادر داخل إيران، دقّ جرس الإنذار في العواصم الغربية، وخصوصًا في واشنطن.
بدأت الشكوك تتكاثف، وباشرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تحقيقًا في تلك الادّعاءات. وبحلول العام 2003، كانت إيران دخلت رسميًا في مواجهة مفتوحة مع المجتمع الدولي بشأن طبيعة برنامجها النووي. طهران أنكرت في البداية نواياها العسكرية، ووافقت لاحقًا – تحت ضغط فرنسي وألماني وبريطاني – على تعليق بعض أنشطة التخصيب بشكل موقّت. لكنّها لم تُفصح بعد عن كل ما تملكه، ولا عن حجم التعاون الذي حصل مع شبكة عبد القدير خان، ما أبقى الغموض الاستراتيجي قائمًا.
وهكذا، بعد أكثر من عقدين على الثورة، عادت إيران إلى طاولة النووي، لكن لا على قاعدة الشفافية التي بدأ بها الشاه، ولا على أرضية الرفض العقائدي التي تبنّاها الخميني، بل ضمن مقاربة هجينة: التقدّم بخطوات حذرة تحت سقف الغموض، في انتظار اللحظة المناسبة لتثبيت “الحق في التخصيب”… وفرضه على العالم كأمر واقع.