ما العامل المشترك بين مطالبة ترامب بالسيطرة على كندا وغرينلاند وبين خطته لوقف الحرب في أوكرانيا عبر إجبارها على التنازل عن أراضيها لصالح روسيا وبين مساعي الصين للسيطرة على تايوان وتوسيع حضورها في بحر جنوب الصين؟ وفق تفسير مونيكا دافي توف أستاذة السياسة الدولية ومديرة مركز الدراسات الإستراتيجية في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة توف الأميركية، في مقالها المنشور بمجلة “فورين أفيرز”ـ فإن ذلك يمثل عودة لعصر “مناطق النفوذ” بحيث تقسم الدول الكبرى العالم إلى مناطق نفوذ حصرية خاصة، وفي خضم هذا التقسيم تُقوض استقلالية الدول الصغرى وتُنتهك سيادتها.
نص الترجمة
بعد أن ألقت الأزمة المالية العالمية 2008-2009 بظلالها على الاقتصادات الغربية، وعزز بوتين سلطته في روسيا، وتوسّع نفوذ الصين العالمي سريعا، بدأت الجغرافيا السياسية العودة سريعًا إلى ديناميكيتها القديمة المستندة بشكل أساسي إلى القوة الصلبة. وشرعت الدول الكبرى مجددا في استخدام ميزاتها العسكرية ونفوذها الاقتصادي وثقلها الدبلوماسي لتأمين “مناطق النفوذ”.
ورغم أن حربًا عالمية أخرى لم تلح في الأفق بعد، فإن المشهد الجيوسياسي اليوم يُشبه إلى حد كبير ما شهدناه في نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما سعى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، والزعيم السوفياتي جوزيف ستالين إلى تقسيم أوروبا إلى “مناطق نفوذ”، حيث تسعى القوى الكبرى اليوم إلى التفاوض حول نظام عالمي جديد تمامًا كما فعل قادة الحلفاء عندما أعادوا رسم خريطة العالم في مفاوضات يالطا عام 1945.
وليس بالضرورة أن تُعقد المفاوضات هذه المرة في مؤتمر رسمي، ولكن إذا توصل الرئيس الروسي بوتين، والرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ إلى إجماع غير رسمي على أن “سياسة القوة” أهم من الخلافات الأيديولوجية، فإنهم سوف يسيرون على خطى “يالطا” في تحديد سيادة ومستقبل الدول المجاورة.
لم يكن من قبيل المصادفة أن الدول التي قادت عودة سياسة القوة على مدار العقدين الماضيين، وهي الصين وروسيا والولايات المتحدة، وقعت جميعا تحت سلطة زعماء يتبنون سردية “جعل بلادهم عظيمة مرة أخرى”. يُركز هؤلاء القادة على مقارنة مستاءة بين وضع بلادهم الحالي المقيد من وجهة نظرهم بفعل الخصوم الأجانب والمحليين على السواء، وبين ماض متخيل أكثر حرية ومجدا.
بالنسبة للصين، تعد السيطرة على تايوان جزءا من إعادة السيطرة على مناطق نفوذها التقليدية، ضمن سياسة الصين الواحدة. وبالنسبة للصين، لن تكفي تايوان وحدها لتلبية هذا النداء، في حين لن تكون أوكرانيا وحدها كافية أبدًا لتحقيق رؤية بوتين لمكانة روسيا الصحيحة في العالم، أما الولايات المتحدة فقد بدأت بدورها تتطلع إلى ضم كندا. بيد أنه لا يزال هناك مسار آخر محتمل، مسار يتكيف فيه الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) بدلًا من أن يذبلا إلى الأبد.
وفي هذا السيناريو، سوف تعمل هذه القوى (الناتو والاتحاد الأوروبي) على موازنة جهود الولايات المتحدة وروسيا والصين الرامية إلى استخدام القوة الباطشة لتحقيق مصالحها الضيقة بشكل يهدد سلام العالم وأمنه وازدهاره. لكن سيتعين على هذه القوى الموازنة المحتملة أن تكافح من أجل هذا البديل، وأن تستغل العقبات التي يفرضها عالم اليوم “الأكثر عولمة” على القوى العظمى الراغبة في تفكيكه.
طوال القرن التاسع عشر، استندت “سياسة القوة” إلى القدرات العسكرية والاقتصادية، ولكن بحلول النصف الثاني من القرن العشرين أصبحت القدرة على تشكيل السرديات العالمية من خلال القوة الناعمة أمرًا لا يقل أهمية، وقد مارست الولايات المتحدة تحديدا نفوذها من خلال هيمنتها على الثقافة الشعبية، وتقديم المساعدات الخارجية، والتعليم العالي، والاستثمار في المبادرات الخارجية مثل فيالق السلام وجهود إرساء الديمقراطية. أما الاتحاد السوفياتي فروّج بنشاط للأيديولوجية الشيوعية عبر شنّ حملات دعاية وتوعية ذات طابع أيديولوجي سعى عبرها لتشكيل الرأي العام في الدول البعيدة. لكن مع انحسار المعارك الأيديولوجية أمام طوفان تحرير السوق والديمقراطية والعولمة في مطلع تسعينيات القرن العشرين، بدا أن “مناطق النفوذ” فقدت أهميتها.
العودة الصعبة
“سياسة القوة” عادت للظهور مجددا قبل غزو روسيا لأوكرانيا بوقت طويل، فقد برهنت وقائع مثل التدخل الذي أثار حفيظة بوتين لحلف الناتو في كوسوفو عام 1999 والغزو الأمريكي للعراق عام 2003 أن قادة العصر الجديد المفترض للأمن الجماعي لا يزالون يعتقدون أنه عندما لا تحصل الدولة القوية على ما تريد، فمن المقبول التصعيد عسكريا لتحقيق مآربها.
بالتزامن مع ذلك، يترسخ نمط قديم من “سياسة القوة” سريعا في أماكن أخرى أيضا يتضمن قيام قوة مهيمنة بتأسيس “مناطق نفوذ” تتسبب في تقليص سيادة الدول المجاورة جغرافيًّا، كما يسعى ترامب لفعله في كندا وغرينلاند والمكسيك، وكما تحاول الصين فعله في تايوان. يسعى ترامب لتطبيق ما يُعرف بـ “سياسة القوة” في كندا وغرينلاند والمكسيك، وهو ما تحاول الصين فعله في تايوان ويحاول بوتين فعله في أوكرانيا.
دائرة مفتوحة
قياسا على قوتها العسكرية والاقتصادية الراهنة لم تعد روسيا قوة عظمى في عالم اليوم، لكن الطريقة التي تُقارن بها روسيا الحالية بالاتحاد السوفياتي غالبًا ما تمنحها قوة مُتصورة تتجاوز إمكانياتها الفعلية، فضلا عن كونها لا تزال قوة نووية فعالة.
وفي سيناريو تتفق فيه الولايات المتحدة والصين وروسيا على أن لديها جميعا مصلحة حيوية في تجنب حرب نووية، فإن الاعتراف المتبادل بمجالات نفوذ كل من هذه الدول يمكن أن يكون آلية لردع التصعيد. لكن تقسيم مجالات النفوذ بدقة يعد مهمة أكثر تعقيدا في العصر الحالي الذي تتوزع فيه الموارد الحيوية التي تحتاج إليها القوى الكبرى في جميع أنحاء العالم.
تعد تايوان مثالا مهما على هذه الحقيقة لأن الرقائق التي تنتجها ضرورية لنمو الدول وأمنها القومي؛ ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تسمح للصين بالسيطرة عليها، كما لا تريد الولايات المتحدة السماح لروسيا بالوصول الحصري إلى المعادن الأرضية النادرة في أوكرانيا.
وبينما تزداد أهمية القوة البحرية مقارنة بأي زمان مضى، بات من الممكن تصور وقوع اليابان وتايوان ضمن مناطق النفوذ الأميركية على الرغم من كونهما مجاورتين للصين. ولهذا السبب تسعى الصين إلى أن تصبح قوة بحرية وتعمل بلا كلل لتعطيل النفوذ البحري الأميركي.
حتى لو اتجه ترامب وبوتين نحو علاقة أكثر تعاونًا مع شي، فسيترك ذلك أوروبا أمام تحدٍّ صعب للاعتماد على نفسها، وساعتها لربما تُجبر دول مثل ألمانيا وفرنسا على وضع إستراتيجيات أمنية مستقلة. ولا يمكن استبعاد أن يتطور الاتحاد الأوروبي إلى ما يشبه دولة فدرالية على غرار الولايات المتحدة.
أما إذا تحالفت الولايات المتحدة وروسيا ضد الصين، فربما تجد اليابان وكوريا الجنوبية نفسيهما تحاولان الموازنة بين واشنطن وبكين، واتباع سياسات خارجية أكثر استقلالية، مع مزيد من الاعتماد على النفس عسكريا، والمزيد من التنويع لشراكاتهما الاقتصادية والأمنية. وسوف تسرع اليابان تحديدا من بناء قوتها العسكرية وتسعى إلى توثيق علاقاتها مع شركائها الإقليميين مثل أستراليا والهند، بينما قد تحاول كوريا الجنوبية حماية موقفها من خلال تعميق علاقتها مع الصين.
وفي حال تحالفت روسيا بشكل أوثق مع الصين -وظلت أوروبا متحالفة بقوة مع الولايات المتحدة- فسيولِّد ذلك نظامًا ثنائي القطب على غرار الحرب الباردة، أما إذا اتبعت روسيا والدول الأوروبية مسارا أكثر استقلالية، فقد يُسهم ذلك في ظهور عالم متعدد الأقطاب، تتأرجح فيه العديد من القوى بين واشنطن وبكين. في هذه الحالة، ستشبه الجغرافيا السياسية العالمية مزيجا من مناورات القوى العظمى في القرن التاسع عشر مع سياسة “الكتل الإستراتيجية” للقرن الحادي والعشرين.
نادرا ما تكون مناطق النفوذ ثابتة وهي محل نزاع دائم، ولكن ظهورها مجددا يشير إلى أن طبيعة النظام العالمي تخضع لاختبار حقيقي. من الممكن قطعا أن يقودنا هذا التحول باتجاه “سياسة القوة” التي سادت في عصور سابقة، ولكن لحسن الحظ هناك بديل أقل خطورة. فبعد أن شهد النظام الدولي دورات من الأزمات المزعزعة للاستقرار، ربما يُعيد تأكيد نفسه مرتدا إلى نظامٍ قائم على القواعد، يتمحور حول التعاون المتعدد الأطراف، والعولمة الاقتصادية، وترتيبات الأمن الجماعي التي تكبح الطموحات التوسعية.
المؤكد أن الولايات المتحدة لا تمثل عامل استقرارٍ موثوق به حاليا. فبينما كانت واشنطن، حتى وقت قريب، هي الرادع الرئيسي للأنظمة التوسعية الإقليمية، يبدو الآن أنها تُشجع هذه الأنظمة نفسها، بل وتُقلّدها. وسوف يعتمد ما إذا كان هذا التحول سيعود في نهاية المطاف إلى توازن القوى المتوقع أو سيفتتح حقبة طويلة من عدم الاستقرار والحرب على مدى فعالية التنافس على “مناطق النفوذ” ومدى جدية دول مثل الصين والهند وإيران وروسيا والولايات المتحدة في تأمين “مناطق نفوذها”.